عبد الله باخشوين
..كنوع من البذخ والرفاهية يمكن أن تتحول «المراثي» الشخصية وشديدة الخصوصية والحميمية إلى أدوات قمعية.. لقائلها ومتلقيها على السواء.
أي تتحول إلى فرصة مناسبة للاستثمار شأن كثير من «حفلات» العزاء التى يجتمع فيها - أحياناً - صفوة الناس مع السوقة من عباد الله.
واش وداك لعزاء عائلة «فلان».. لا هو من ثوبك ولا أنت من ثوبه..؟!
يقلك.. لا والله رحت عشان قريبهم «فلان» أعزيه.. ويشوف وجهي يمكن يتذكرني.. وما ينسى وعده ليا؟!
نرجع للمراثي وما يمكن أن يقوله كاتبها مستدراً دموع قرائه ومحبيه وأعدائه أيضاً.. لكن ما أن تبرد مشاعر المشاركة حتى تجد نفسك تضحك وتقول: «ما أرخص الناس في أفراحهم وأتراحهم».
ومنذ فجعني رحيل أبي.. لم أشارك بالحضور في عزاء.
قررت أني إنسان خسيس.. لا يعرف الأصول ولا يفهم في الواجب.
لم أحضر مراسم دفن أبي.. ولم أحضر لتلقي العزاء فيه.
اكتفيت بأن دعوت الواحد الأحد أن يقرب مسافة «السفر» ويجمعني به في ملكوته الفسيح في يوم قريب.. وذلك بعد أن استعرضت وجوه كل المعزين الذين يمكن أن التقي بهم.. فلم أجد بينها ولا وجه واحد يمكن أن يشعرني مرآه بالعزاء.. بل إن أكثر من سوف أرى سيزيدني مرآه غماً على غم.. واكتفيت بالبقاء وحيداً استعيد ذكرياتي مع أبي ووجدت فيها ما يمنحني العزاء ويغسل أحزان قلبي.
كذلك الحال مع أمي.. فقد زرتها قبل رحيلها وقبلت قدميها.. وفي طريق عودتنا من الطائف إلى جدة قلت لأولادي: «خلاص.. جدتكم سافرت».. وفهمت زوجتي المعنى وقالت: «الله يحسن خاتمتنا ويشمل برحمته كل من نحب».
وبعد ذلك لم أحضر «حفل» عزاء.. لأن معظم أهل الحجاز اعتادوا أن يشعلوا الأضواء في الشارع المقام فيه العزاء أسوة بما يتم في حفلات عقد القران.
وفى أحد الأفلام الهندية التي تحولت لمشاهدتها.. أعجبتني ظاهرة أن النساء يحضرن إلى المآتم مرتديات الثياب البيضاء.
دائماً اكتفي بما في ذاكرتي عن الراحل من ذكريات تجلب العزاء وتزيل الأحزان.
صحيح أنني أخدع نفسي وأضللها بالقول إنني لم أر أبي على فراش موته ولم أقف على قبره.. وإنني عندما التقي به ذات يوم يسير سارحاً كعادته في أحد شوارع جدة القديمة.. أو يطرق بابي على حين غرة.. سوف استقبله دون دهشة.. ولكن بفرحة استقبال الغائب الذي أطال الغيب.. وأقول له:
فين غبت عني كل هذه المدة.. خليتني أقلق عليك..؟!
وسوف يحضنني ويقول كعادته: وحشتني يا شيخ..؟!