د. عيد بن مسعود الجهني
عند العرب قبل الإسلام كان التحكيم عرفاً وشريعة سائدة تلزم الأفراد به وكان اللجوء إليه اختيارياً ولا سبيل لجبر المختصمين بتنفيذ حكم المحكم في تلك الفترة التاريخية، رغم أن التحكيم في عصر الجاهلية قبل أن يشع نور الإسلام ساطعاً كان الوسيلة الوحيدة لفض المنازعات بين القبائل العربية، فقد كان يقوم بناءً على وثيقة تبيّن موضوع النزاع بشكل واضح وتحدد اسم المحكم أو المحكمين الذين يفوّضون بالفصل في النزاع، واحترام شيوخ القبائل ونفوذهم كان هو الضامن لتنفيذ أحكام المحكم أو المحكمين.
وفي هذا المقال من المهم أن نأتي على أساس التحكيم في الشريعة الإسلامية الغراء، فالقرآن الكريم وردت فيه نصوص كثيرة يقول عزَّ وجلَّ في كتابه العزيز (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) النساء 58، والعدل في الإسلام مطلق يشمل جميع الناس من المسلمين وغير المسلمين، بل يشمل الأعداء قال تعالى (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) المائدة 8، وفي القرآن الكريم تأكيد على العدل في مواضع عديدة قال تعالى: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) المائدة 42، وقال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) النساء 35، (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النساء 65 .
وعندما وفد أبا شريح هانئ بن يزيد رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله هو الحكم وإليه الحكم فلم تكنى أبا الحكم فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين ورضي علي الفريقان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحسن هذا فما لك من الولد فمن أكبر ولدك؟ قال: لي شريح ومسلم وعبد الله، قال فما أكبرهم ؟ قلت: شريح، قال: أنت أبو شريح ودعا له ولولده» سنن أبي داود ج13 رقم 4934 .
فإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي شريح على حكمه بين قومه بتراضيهما دليل على جواز التحكيم ومشروعيته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حكم بين اثنين تحاكما إليه وارتضيا به، فلم يعدل بينهما بالحق فعليه لعنة الله).
كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي بتحكيم سعد بن معاذ رضي الله عنه في أمر اليهود من بني قريظة، حين جنحوا إلى ذلك ورضوا بالنزول على حكمه، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي بتحكيم الأعور بن بشامة في أمر بني العنبر حين انتهبوا أموال الزكاة.
وعندما نشأ نزاع بين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورجل من العامة هو أبي بن كعب فتحاكما إلى زيد بن ثابت للفصل في النزاع، وعندما ذهب الخليفة مع أبي بن كعب إلى زيد بن ثابت، وسأل زيد أمير المؤمنين عن سبب عدم استدعائه له بدلا من حضور الخليفة شخصياً، فأجاب أمير المؤمنين قائلاً: «عندما نحتكم نأتي إلى بيت المحكم لنطلب إليه الفصل في النزاع»، وعندما دخل الخليفة وخصمه إلى بيت زيد بن ثابت، أعطاه زيد وسادة ليرتاح إليها، فرفض الخليفة ذلك قائلاً: «هذا أول تصرف لك يفتقر إلى الإنصاف»، فقد اعتبر أمير المؤمنين تقديم وسادة له دون معاملة خصمه مساواة له عملاً من المحكم مخلاً بالعدالة، وإخلالاً بمبدأ المساواة والحياد بين الخصوم.
واختلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع رجل في أمر فرس اشتراها عمر بشرط السوم، فتحاكما إلى شريح، وقد قضى شريح على عمر ابن الخطاب في خلافته، وقضى ضد علي بن أبي طالب في خلافته أيضاً، وكلاهما ترافع إليه وهو يعتقد أنه على حق، كما تحاكم عثمان رضي الله عنه وطلحة إلى جبير بن مطعم رضي الله عنه (كشف القناع 6-203 - المغني 10-190)، وقد وقع مثل ذلك لجمع من كبار الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكره أحد في اشتهاره فكان إجماعاً.
ومن يدقق في نصوص التحكيم التجاري السعودي القديم 1403هـ ونظام التحكيم التجاري الجديد 1433هـ ولائحتهما التنفيذية يجد أن نصوصهما متطابقة مع الشريعة الإسلامية التي تطبّقها المملكة نصاً وروحاً فدستورها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
وللحديث بقية
والله ولي التوفيق،،،