د.ثريا العريض
نشط الحوار مؤخراً حول قضية الإعلام هل سيظل تقليدياً؟ أو يحدّث ليواكب المستجدات نظراً لتغييرات التقنية والمجتمع والقيم والعلاقات؟
لا أشير هنا فقط إلى مستقبل الصحافة الورقية، أو احتمال الانتقال الكامل إلى الصحافة الإلكترونية، بل إلى ثقافة الحوار العام. ربما أهم ما استجد في حوار المجتمع هو إشراع بوابات وسائل التواصل الاجتماعي لكل من اقتنى جهاز كمبيوتر شخصياً أو هاتفاً ذكياً وأتقن التعامل مع لوحة مفاتيحه. كي يدخل في الحوار العام كل من لديه رغبة في إضافة عبارة ذات فحوى ومغزى، حكيمة أو لئيمة تعلن موقف كاتبها من قضية ما تثير اهتمامه. قبل مفاتيح الأجهزة والنشر للإيصال المباشر لكل المتلقين، كانت الكتابة من نخبة محدودة لفئة أقلية تصنف نفسها مثقفة الاهتمامات. ومع نشر التعليم أو بالأحرى محو الأمية القرائية غدت مساحة مفتوحة تستقبل كل ما يضيفه أي والج: قد يكون عالماً متخصصاً يحمل شهادة عليا في مجال تخصصه، أو نصف جاهل يكتب فيخطئ في استخدام اللغة فلا يفرق بين الياء والواو في جمع المذكر السالم، ولا الفرق بين هاء الضمير الدالة على المذكر، والتاء المربوطة الدالة على الأنثى.
وهناك جوانب أخرى لنتائج انفتاح التواصل العام وإمكانية اختلاق ونشر معلومات مفبركة ومزورة ومزيفة، وتلقي الأصداء المسممة في كل الجهات، يحمل تداعيات خطيرة في تأزم العلاقات وتصعيد التصدعات إلى حيث يصعب رأب أي صدع لاحقاً. وقد تسخر إمكانات سهولة التواصل للتنفيس عن شحنات مشاعر سلبية فردية أو فئوية فتنقلها من مجال المجالس الخاصة المحدودة التأثير إلى مجال الجدل العام كوباء ينشر تأثيرها تأليباً أو استنفاراً وإقصاءً واستعداءً وتحريضاً على العنف ومولداً للإرهاب.
وفي حقبة تصدعات وأزمات سياسية متصاعدة عالمياً وإقليمياً، يبدو سوء استخدام فرص التعبير عن الرأي واضحاً في صيغ تعاملنا مع من نصنفهم من فئة الأشقاء، أو الحلفاء، أو الأعداء، وهي تصنيفات لأدوار غير ثابتة؛ فحليف اليوم قد يصبح مناوئاًَ وعدواً في الغد والعكس بالعكس. والتناقض فيما نلقبه به اليوم وما نتجنبه في الغد يسجله متابعو وسائل التواصل والإعلام حيث الذاكرة التقنية لا تلغي شيئاً. ويظل تأثير الندوب في ذاكرة البشر، وإن تغيرت المواقف والعلاقات الحكومية، ووقعت الاتفاقيات في وثائق رسمية. الإعلام الجديد الذي يحتوي كل من أسهم بكلمة أو عبارة أو صورة أو فيديو حقيقي أو مفبرك، وسيلة فارهة وسلاح ذي حدين. والإعلام ككل سواء كان تقليدياً أو حديثاً، مقروءاً أو مسموعاً أو مرئياً ومنقولاً عبر الفضائيات لكل أصقاع الكون-، مع الترجمة والتبهير بالتحليل والتفسير، لخدمة أغراض ومآرب أطراف أخرى ظاهرة أو مستترة، لها مصالحها الخاصة لترويج ما ينشر وتوسعة النزاعات واستقطاب الصداقات والعداوات.
وفي حين أننا في مواجهة تحديات المتغيرات اقتصادياً وسياسياً ومجتمعياً، نتنادى لتأكيد الانتماء الوطني والالتفاف حول الوطن، إلا أن هناك التزاماً عاماً واضحاً، ويجب أن يكون مستداماً، بضرورة احترام قيم المجتمع النبيلة وأدبيات الحوار الحضاري. وبعض ما يرتكبه متحمسون باسم الدفاع عن الوطن يضره، ويهدم ما تقوم به القيادة لتوضيح صورتنا وأفعالنا في زمن متأزم يتطلب منا توضيح الوجه الجميل لثقافة مميزة بشيم النبل ومصداقية التعبير عن الحقائق، لا مهارات التنفيس والتكسب بالمدح والذم وتقبل التجاوز في أدبيات الحوار. ناهيك بخطورة تأثير ذلك على استتباب الأمن.