أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: من عرف الملك عبدالعزيز، وعرف تاريخ دولته عروبة وتدينا منقطع النظير في الحماس لكل ذلك: فلن يكون في تصوره ألبتة إلا أن قدر هذه الدولة بإطلاقٍ: الكره، والعداء المرير لكل جبهات العداء للحضور العربي الإسلامي من صليبية، وصهيونية، ودولٍ استعماريةٍ يفترض أن غايتها تحليلية نفعية غير أيديولوجيةٍ؛ وهكذا إذا نظر إلى واقع الأمة المتردي؛ وتحقق المآرب؛ ولهذا قال الملك عبدالعزيز رحمه الله في جوابه (هوسكنز) مبعوث (روزفلت) كما في كتاب (شبه الجزيرة) 4/2411-3411 -: ((وأما ما ذكر فخامته من جهة مقابلتي الدكتور (حاييم وايزمن): فأحب أن يعلم فخامة الرئيس بأننا نقابل كل من يأتي إلينا من جميع الأديان بكل ترحاب، مع القيام بالواجب لهم حسبما يقتضيه مقامهم من الإكرام؛ وأما اليهود بصورة خاصة فلا يخفى على الرئيس ما بيننا وبينهم من عداوة سابقة ولاحقة؛ وهي معلومة ومذكورة في كتبنا التي بأيدينا؛ [يعني القرآن الكريم، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهكذا هي فيما أنزله الله سبحانه وتعالى على موسى عليه السلام مما حرفوا فيه الكلم من بعد مواضعه بالتأويل، ولم يستطيعوا تبديل كلماته أو حذفها؛ لتواترها، ولحاجتهم إليها إذ استوطن فئام منهم مأوى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهي المدينة المنورة]، ومتأصلة من أول الزمان؛ فمن هذا يظهر جلياً أننا لا نأمن غدر اليهود، ولا يمكننا البحث معهم، أو الوثوق بوعودهم: أولاً: [لأننا] نعرف نواياهم نحو العرب والمسلمين؛ [و] ثانياً: لم نتصل بالعرب لنعرف رأيهم؛ وإذا رغب فخامته أن نقوم باستمزاجهم واستطلاع رأيهم؛ [ف] نحن نقوم بتحقيق تلك الرغبة حينئذ.. وأما الشخص الذي هو الدكتور (وايزمن)؛ فهذا الشخص بيني وبينه عداوة خاصة؛ وذلك لما قام به نحو شخصي من جرأة مجرمة؛ بتوجيهه إلي (من دون جميع العرب وأهل الإسلام) تكليفاً دنيئاً؛ [يعني الرشوة التي ضرب بها عبدالعزيز وجه مندوبه]؛ لأكون خائناً لديني وبلادي؛ الأمر الذي يزيد البغض له، ولمن ينتسب إليه؛ وهذا التكليف قد حدث في أول سنةٍ من هذه الحرب؛ إذ أرسل إلي شخصاً أوربياً معروفاً يكلفني أن أترك مسألة فلسطين، وتأييد حقوق العرب والمسلمين فيها)).
قال أبو عبدالرحمن: ولم يكن عبدالعزيز في دور المزايدة بقضية فلسطين؛ لأنه لم يكن بين شعبٍ ذي وعيٍ سياسيٍ على مستوى العلماء، أو الجمهور؛ وحينئذٍ فتفسر مواقفه بضغوط شعبية؛ بل كان هو في دور التثقيف للشعب، وتوجيه العلماء إلى تعميم الوعي لدى الرعية بمخاطر الصهيونية، وأحوال اليهود مع المسلمين في فلسطين؛ وذلك في رسائل له إلى العلماء، وبرقيات له إلى أمراء المناطق..إن مواقف عبدالعزيز من قضية فلسطين ليست وليدة التفنن الإنشائي في هذا العصر؛ بل هي مثبتة مدونة في حينها في الوثائق والمذكرات والمراسلات والكتب وتحليلات السياسيين، وقد تكفل بضميمة منها الأستاذ أحمد بن زيد العتيبي في كتابه الرائد (السعوديون ودورهم في قضية فلسطين)؛ وكله بلغة الأرقام والوثائق والإحصاءات والإحالة إلى المصادر المباشرة؛ وهو في سياق عشرات من الكتب عن الملك عبدالعزيز، وفي سياق آحاد من الكتب عن عبدالعزيز والقضية الفلسطينية مثل كتاب: (ابن سعود وقضية فلسطين) لأحمد عبدالغفور عطار، و(سجل الشرف ذكرى الخالدين) لـ(فهد المارك)، وكتاب (المملكة العربية السعودية وقضايا الصراع العربي الإسرائيلي) للدكتور (عبدالله الأشعل)، و(المملكة العربية وقضية فلسطين) لـ(عائشة علي المسند)، و(الملك عبدالعزيز آل سعود والقضية الفلسطينية) لـ(تاج السر أحمد حران)، و(حدود الجزيرة العربية) تأليف (ولينكسون).. إن عبدالعزيز في تكوينه فوق الشبهة تجاه أعدى عدوٍ لأمتنا، وهم الصهاينة.. ولو صدر منه موقف خاطئ قاصر(؛ وهو مالم يحدث ألبتة، بل الإجماع على حنكة مواقفه): لكان محمولاً بالضرورة على حسن القصد؛ لأنه متين الدين عقيدةً وسلوكاً، سلفي النزعة؛ وهذا التكوين الديني العلمي لا يلتقي ألبتة مع نازع الحياد في صراعٍ إسلاميٍ يهودي؛ فما بالك بتهمة الممالأة؟!؛ وهو عربي صميم نسباً، وممارسة، وموطناً، وميراثاً تاريخياً؛ وهوشديد العصبية لعروبته بشرطها الإسلامي.. وهذا التكوين لا يقبل الوشب في الرقعة العربية والإسلامية ألبتة؛ لهذا كان عبدالعزيز بين الناب والمخلب يعمل عسكرياً، ويراوغ دبلوماسياً، ويلتزم الحياد ما أمكن؛ فلما انتصر الحلفاء، واقتسموا عالمنا العربي والإسلامي، وتحكموا في من دولته قائمة بحدودها: كان عبدالعزيز يحكم حبل السياسة مع القوى الغاشمة الغالبة، ويسوي كل انتصار له عسكريٍ؛ (وذلك على غرةٍ وانتهاز فرصة) بالمحاورة السياسية مع قوى النفوذ؛ وليس في معاهدته لبريانيا العظمى يومها إلا ما يبيض وجهه؛ فلم يتنصل عن مسؤوليته تجاه أمته العربية والإسلامية، ولم يساوم على شبرٍ من الأرض، وكل ما كسبته بريطانيا منه أن أمنت منه ضم دويلاتٍ تورطت بمعاهدات حماية؛ وظل مع ذلك داعماً حركات التحرر من الاستعمار.. وإلى لقاءٍ في السبت القادم إن شاء الله تعالى، والله المستعان.