الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
النصح والتناصح من الطباع الخيِّرة والفطرة الأصيلة في نفوس البشر، وهما من الأفعال التي يحث عليها ديننا الحنيف؛ لأنهما يحملان في طياتهما سعادة للبشر. فتغليب الخير على الشر عمل لا جدال بأنه من أسمى وأرقى الفعال البشرية. ولأهمية ذلك يبقى التساؤل في كيفية تحقيقه في المجتمع المسلم؟!
الشيطان بالمرصاد
يقول الدكتور فهد بن سعد المقرن، الأستاذ بكلية أصول الدين في الرياض: جاء في الحديث عن أبي رقية تميمِ بن أوسٍ الدَّاري - رضي الله عنه - أن النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «الدِّين النصيحة». قلنا: لِمَن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين، وعامَّتِهم». رواه مسلم.
قال النوويُّ - رحمه الله - عن هذا الحديث: «هذا حديثٌ عظيم الشَّأن، وعليه مَدارُ الإسلام». النصيحة وظيفةٌ من وظائف الأنبياء؛ فقد ذكر الله - تبارك وتعالى - في القرآن الكريم على لسان نوحٍ - عليه السَّلام - قولَه لقومه: أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَْ .
وهي قرينة الصلاة والزكاة؛ فعن جَرِير بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: «بايعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على إقام الصَّلاة وإيتاء الزَّكاة، والنُّصح لكلِّ مسلم». رواه البخاريُّ ومسلمٌ.
فالواجب إشاعة التناصح بين المسلمين؛ فالناصح داعٍ للخير، وداعي الخير يبذل كل الطرق المشروعة لحمل الناس على تقبُّل النصح والعمل به، ويُظهر للمنصوح محبة له، وشفقته عليه، وبره به بأدائها.
وليعلم الناصح أن الشيطان له بالمرصاد؛ ليفسد هذه النصيحة بإفساد نية الناصح، وبحمل المنصوح على عدم تقبلها؛ فليحذر منه، ويسد عليه كل طريق.. وأنه متى ما شاعت النصيحة ضعفت الغيبة بين الناس؛ لأن المغتاب لو نصح من اغتابه لزال ما وقع في نفسه من الغيظ بنصح أخيه المسلم. والناصح مجاهد في سبيل الله؛ ولهذا عليه الصبر على ما يحصل له من الأذى في سبيل النصيحة.
وما أحسن ما قاله الإمام الشافعي في أدب النصيحة:
تَعَمَّدْنِي بِنُصْحِكَ فِي انْفِرَادِي
وَجَنِّبْنِي النَّصِيحَةَ فِي الْجَمَاعَهْ
فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ
مِنَ التَّوْبِيخِ لاَ أَرْضَى اسْتِمَاعَهْ
فَإِنْ خَالَفْتَنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي
فَلاَ تَغْضَبْ إِذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَه
شروط النصيحة
ويؤكد د. خلف بن علي العنزي، رئيس لجنة الأوقاف بالغرفة التجارية الصناعية بعرعر والمستشار السابق بوزارة العدل، أن النصيحة شأنها في الدين عظيم، وهي: من كمال الإيمان، ومن صفات المؤمنين، ومن حقوق المسلمين بعضهم على بعض؛ فالمسلم ينصح أخاه المسلم بما يعود عليه بالنفع والفائدة. والنصيحة المراد منها النفع والخير للمنصوح. والنصيحة هي الصدق والإخلاص والعناية بالشيء بأن يؤدَّى على أكمل وجه.. وهي من الدين، كما في حديث تميم الداري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الدين النصيحة (ثلاثًا)»، فقلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم». والنصيحة جامعة لكل خير نافية وطاردة لكل شر. والنصيحة أن يبيِّن الحق لأخيه المسلم، ولا يغشه في شيء أبداً صادقاً في تعامله وبيعه وشرائه.. وإذا استشاره نصحه وبيّن له.
ولكن النصيحة لا يمكن تطبيقها في المجتمع إلا من خلال الالتزام بشروطها وآدابها الشرعية، منها:
1 - أن تكون خالصة لله، الباعث عليها إرادة الناصح الخير والنفع للمنصوح له، لا التشفي أو التنقص منه.
2 - اختيار الوقت والمكان والأسلوب المناسب للنصيحة، بأن تكون سراً، وعلى انفراد، بعيداً عن أعين الناس مستخدماً الرفق واللين، ومبتعداً عن الغلظة والشدة؛ لأن ذلك أدعى لقبول النصيحة.
3 - أن تكون النصيحة بالتعريض والتلميح، لا بالتصريح.
4 - التأكد من الأمر الذي يراد أن ينصح عنه قبل الشروع في النصح، وأن يكون لديه المعرفة والعلم بالبيان والإيضاح.
قيمة النصيحة
ويشير د. عبدالله بن محمد المطرود، عضو الدعوة والإرشاد بالرياض، إلى أن أمة الإسلام تتسامى بروعة بقائها وتسيدها لميدان الأخلاق والأدب والفضيلة؛ كونها راعية لمبادئ وقيم كثيرة في الحياة العامة والخاصة. ومن ضمن هذه المبادئ والقيم قيمة النصيحة التي أصبحت درة في جبين المجتمع والأفراد؛ فبالنصيحة ترتفع الأنانية، ويحصل الأمن القلبي والعملي، وتتآلف القلوب، وتتقارب الرؤى، وتهدأ النفوس، وتُفوت الفرصة على العدو والحاقد والمفرق للأفراد والجماعة.
وإن المتتبع لأي القرآن الكريم وحديث سيد المرسلين يعلم عظم وقيمة النصيحة، وأثر التناصح على الفرد والمجتمع؛ لذا لما كانت النصيحة شعاراً عملياً بين أفراد المجتمع صلح حالهم، وهدأت نفوسهم، وتوطدت عرى الأخوَّة بينهم. قال الله تعالى وهو يخبرنا عن وظيفة الرسل {وأنصح لكم}. وقال الرسول «الدين النصيحة». بل إنها حق المسلم على المسلم.. وإذا استنصحك فانصحه. ومن نتائج النصيحة والتناصح {فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}. النصيحة باب من أبواب الصلح والمحبة ورفع الأذى وكف الضرر.. قال الله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ . وقد حرص الإسلام على التسامح، وهو لا يكون إلا بالتناصح. وهنا يرتفع الحرج، ويحصل الفرج، وتصفى القلوب، ويرضى علام الغيوب. فعلينا برفع راية النصح، ومعرفة طرقه، والتفريق بينه وبين الفضح.. فإذا عرفنا نتائجه السعيدة حرصنا على رفع شعاره بيننا، وإلا فقد يحدث خلاف الاجتماع بافتراق واختراق، وخلاف الصفاء كدر، وخلاف المحبة بغضاء، وخلاف الأمل ألم، وخلاف القربى ابتعاد.
وأخيراً تذكروا قول أحد رسل الله - وهو هود عليه السلام - حين قال الله عنه {وأنا لكم ناصح أمين}. هنيئاً للناصح، وهنيئاً لمجتمع المتناصحين.
وظيفة الأنبياء
وبيَّن د. عبدالله بن حمد السكاكر أستاذ الفقه بجامعة القصيم أنه قد تكاثرت النصوص على أهمية التناصح بين المسلمين وفضله كقوله سبحانه وتعالى {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس}، وكقوله صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة..» الحديث.
والنصيحة هي وظيفة الأنبياء والرسل كما قال سبحانه عن أحدهم بعد أن نصح قومه فلم يقبلوا نصحه: فَتَوَلّى عَنهُم وَقالَ يا قَومِ لَقَد أَبلَغتُكُم رِسالَةَ رَبّي وَنَصَحتُ لَكُم وَلكِن لا تُحِبّونَ النّاصِحينَ .
وذم الله - عز وجل - التاركين النصيحة ولعنهم، كما في قوله: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) المائدة.
وهذا كله يكرس (الإيجابية) في الإسلام؛ فالمسلم لا يعيش لنفسه، وهو مأمور بأن يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، وأن يتجاوز مرحلة حب الخير للغير بالسعي في نفع الناس ودلالتهم على الخير وتحذيرهم من الشر.. وقد تمثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الخُلق أعظم تمثيل؛ فقد كان يهتم بهداية قومه، ويسعى في دعوتهم للإسلام، ويغتم لردهم النصيحة وإصرارهم على الكفر أعظم الغم، حتى عاتبه الله سبحانه وتعالى على الإفراط في الحزن عليهم وقال له (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات).
إن الانكفاء على النفس والاشتغال بخاصتها سلبية مقيتة، مخالفة لتوجيه الله سبحانه وتعالى لعباده، ولهدي رسله وأنبيائه.