د. عيد بن مسعود الجهني
في ظل تطور الحياة الاقتصادية والتجارية والاستثمارية المحلية والأجنبية في المملكة وزيادة عدد الشركات المساهمة وغيرها من أنواع الشركات الأخرى والمؤسسات الفردية والمصانع ... إلخ، ورغم أن نظام التحكيم لعام 1403هـ جاء في وقت مناسب وملأ فراغاً كان ينتظر مثل ذلك النظام، إلا أنه مع طول فترة تطبيقه وتطور الاقتصاد السعودي والتنمية والتجارة وتوسع منظومة القطاع الخاص والاستثمار.. فقد أحسنت الدولة صنعاً بإصدارها نظام التحكيم الجديد عام 1433هـ - 2012م.
هذا لأن النظام في عصرنا الحديث ضرورة لكل مجتمع فالمصالح تتضارب والغايات تتعارض والوسائل تتباين وتتفاوت، وهنا يبرز دور النظام في التوفيق بين المصالح، هدفه وقصده تحقيق المصلحة العامة للجميع، وذلك عن طريق تحقيق التوازن وترسيخ المبادئ.
هذا يؤكّد أن التحكيم في عالم اليوم أصبح من مظاهر العصر وضرورة يفرضها الواقع المعيش للتجارة والتبادل التجاري الداخلي والدولي ولم يعد محصوراً في العمل على فض المنازعات بعد نشوبها، بل تعدى ذلك ليكون أداة فعَّالة وقوية لتفادي نشوء المنازعات لاسيما في العقود الداخلية والدولية والاتفاقيات.
إذاً التحكيم يسهل للناس وعلى وجه الخصوص رجال الأعمال والشركات والمؤسسات الوطنية والأجنبية وكذلك الأفراد الالتجاء إليه لسهولته ويسره، حيث الكل يختار قاضيه أو يوافق عليه، ولذلك يطمئن إليه ويرضى بقضائه وحكمه، وهو أمر مهم في استقرار النفس البشرية على أن العدل قد تحقق بصدور القرار من المحكمين.
لذا أصبح شرط التحكيم في العلاقات التجارية الدولية شرطاً في معظم كل العقود سواء ما يبرمه الأفراد أو تبرمه الحكومات مع الشركات بحيث أصبحت محوراً في التجارة الدولية لسرعة البت في الموضوع وعدم تعدد درجات التقاضي من استئناف ونقض أو تمييز.
وإذا خلت العقود في القليل النادر من شرط التحكيم فإنه عندما يقوم الخلاف يلجأ أطرافه إلى مشارطة تحكيم التي يوافق بموجبها أطراف النزاع على إحالة خلافاتهم إلى التحكيم لإنهاء ما بينهم من خلاف.
هذه الأهمية للتحكيم التجاري زادت أهميتها مع التطور المستمر في نمو التجارة الدولية التي صاحبها تشابك المصالح الاقتصادية وتنقل رؤوس الأموال في قارات العالم من خلال المصارف المحلية والدولية وشركات الاستثمار خاصة في ميدان العقود الكبرى مثل عقود النفط والغاز والنقل البحري والإنشاءات وغيرها.
يتضح أنه في هذا العصر أصبح التحكيم سمة من سماته البارزة وعلامة من علاماته الظاهرة فقد تعددت الحاجات وتشابكت العلاقات لا في داخل الدولة وحدها، ولكن في مجالات العلاقات بين الدول، وأصبح الاتصال سهلاً والحاجات متطورة ومتعددة والتجارة أصبحت أساساً للاقتصاد النامي في جميع الدول على السواء، وزاد من ذلك تطور الصناعة وتقدّمها، مقدمة للناس ما يلبي رغباتهم التي لا تنقطع. والمتتبع لتطور التحكيم يتضح له أنه تترتب على هذه الكثرة من العقود والعلاقات، الاختلاف بين المتعاقدين في تفسير عقودهم وما يترتب على ذلك من طرق باب القضاء للمطالبة بحق أو لدفع تفسير جائر لنص من نصوص العقد. وقد كان لازدهار التجارة في العصر الحديث زيادة في العقود والمشارطات، ونتيجة لاختلاف اللهجات واللغات زاد الخلاف، وأصبح الأمر يحتاج إلى علاج لذلك، إذ الأمر يتطلب سرعة في البت مع بقاء العلاقات قائمة على الود حتى لا يؤثِّر فيها ما كان يؤثِّر من اللجوء إلى القاضي وما يترتب عليه من دفاع ودفوع، ومن تأخير في الفصل في النزاع وقد تفنن في ذلك الناس، ما يترتب عليه عدم التقيد بالنصوص القانونية ما دامت هذه النصوص ليست من قواعد النظام العام أو من المسائل التي لا يجوز فيها التحكيم. ولأننا سنتطرق من خلال مقالات مختصرة لشرح نظام التحكيم الصادر عام 1433هـ 2012م لأهميته القصوى في هذا العصر، عصر الاقتصاد والتنمية والاستثمار والتبادل التجاري والاكتشافات المذهلة، فإنه من المهم الإشارة إلى اختلاف التحكيم عن الخبرة والوكالة والصلح.
فهو يختلف عن الخبرة في أن الخبير لا يقوم بوظيفة القضاء كالمحكم وإنما هو يكلّف من قبل الخصوم بمجرد إبداء الرأي فيما يكلّف من مسائل، وهو في ذلك لا يلزم الخصوم كما لا يلزم القاضي.
وهو يختلف كذلك عن الصلح ذلك أن الصلح عقد يتم بين أطراف الخصومة أنفسهم يقومون بمقتضاه بحسم خلافاتهم عن طريق نزول كل طرف عن بعض ما يتمسك به، وفي ذلك يعتبر ما انتهى إليه الصلح عقداً جديداً بين المتخاصمين يظهر لكل منازع الحق الذي له على الآخر بعد التنازل عن بعض أصل الحق، وعقد الصلح غير قابل للتنفيذ بذاته، وإنما إذا لم ينفذ رضاء كان طلب تنفيذه عن طريق اللجوء إلى القضاء للحكم بما حواه.
وهو يختلف عن الوكالة أيضاً فبينما الوكيل يستمد سلطته من موكله، الذي يملك التنصل من عمله إذا خرج عن حدود وكالته، نرى المحكم مستقلاً تمام الاستقلال عن الخصوم فبمجرد الاتفاق على التحكيم واختيار المحكم تصبح له صفة القاضي ولا يتمكن الخصوم من التدخل في عمله، بل إنه في النهاية يفرض عليهم حكمه.
وللحديث بقية
والله ولي التوفيق،،،