د. علي بن فايز الجحني
بعد ثورة الخميني المشؤومة عام 1979م، وما تبعها من تداعيات، قرر ملالي النظام تبني تصدير الطائفية والمذهبية والإرهاب على غرار ما كان يقوم به الاتحاد السوفييتي السابق في اعتناق وتبني تصدير أيديولوجيته الماركسية. هذا من جهة, ومن جهة ثانية استدعت الثورة الخمينية طقوس فارس القديمة وثاراتهم وأحقادهم على العرب التي يزخر بها تراثهم وأشعارهم, وطال الأذى والافتراء رموز الإسلام والمقدسات وصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين أقاموا دولة الإسلام، وفتحوا ديارهم، ونشروا الإسلام بينهم، وأطفؤوا نار المجوسية والوثنية والظلم في بلادهم, وأقاموا العدل فيهم.. كل ذلك جعلهم ينفثون أحقادهم وضغائنهم في سب الصحابة والطعن فيهم، بل الطعن في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ولازمهم ذلك حتى قال علماؤهم: «إن الدم الذي يجري في عِرق علي بن الحسين وفي أولاده دم فارسي؛ لأن أمه ابنة يزدجرد فارسية». وبنوا على ذلك خرافات وأوهامًا، وتعاون معهم رؤوس الفتنة من اليهود الذين ربطوا أتباعهم بالمصادر التي وضعها علماء التضليل فيهم، مثل: الكليني والقمي والطوسي، كما كان يعمل النصارى مع قساوستهم في القرون الوسطى.
وقد غالى أتباع الملالي الجهلاء في أئمتهم، فرفعوهم إلى مقام الألوهية، وقالوا بعصمتهم, وأنهم لا يكذبون, وأن لهم منزلة عالية لا تبلغها منزلة، وأنهم مقدسون لا يعصون الله، ولا تقع منهم خطيئة صغيرة ولا كبيرة, وبنوا عليها أكاذيب العصمة والمهدية والغيبة, والتقية المستوحاة من أديانهم المجوسية والأديان الأخرى.
وكانت الرؤية التي جاء بها الخميني وطوَّرها مَن جاء بعده تنطلق من الآتي:
أولًا: تبني سياسة صفوية استعلائية قائمة على تسويق نفسها على أنها تضطلع بدور «الشرطي» في المنطقة، ليس للخليج فحسب كما كان في عهد الشاه, وإنما على منطقة الشرق الأوسط، وعلى الدول الإسلامية. ومن المعروف أن شاه إيران السابق حاول أن يضطلع بهذا الدور طيلة (37) عامًا، أي من عام 1941 إلى 1978م لمصلحة الدول الغربية تطلعًا منه إلى الهيمنة الفارسية.
ثانيًا: زعزعة الاستقرار في المنطقة، وإثارة الخلافات، ودعم الطائفية والمنظمات الإرهابية؛ للنيل من دول مجلس التعاون الخليجي خاصة، وكسب نفوذٍ في العالمين العربي والإسلامي عامة بشعارات زائفة.
ثالثًا: العمل على تصدير الطائفية الإيرانية؛ بزعم أن إيران تمتلك العمق الديني والحضاري، وصاحبة القوامة والاختصاص الفارسي لاعتبارات تاريخية، وجيواستراتيجية, وأيديولوجية، بينما السر الذي يخفى على الكثيرين هو: هاجس الخوف من فشل ثورتهم وتراجع شعبيتهم إقليميًّا، ومن ثم العودة إلى نظام الشاه السابق من جهة، ومنعًا لتفكك إيران إذا ما تنامت قوة الأقليات من جهة ثانية.
رابعًا: تبني النظام الإيراني عقيدة تجيز له قتل من يطلق عليهم «النواصب». والنواصب في مذهبهم كل من لم يكن شيعيًّا رافضيًّا، ويقصدون أهل السنة والجماعة كافة، ويقولون: «أهل السنة كفار أنجاس, وشرٌّ من اليهود والنصارى».
خامسًا: ترويج شعارهم المعلن بأنهم ضد «الشيطان الأكبر» أمريكا وحلفائها، وأنهم يقفون مع المظلومين والمضطهدين في العالم ضد الطغاة.
سادسًا: مواصلتهم العمل دون كلل أو ملل على توجيه رسائل إلى الغرب بأن إيران هي الأكثر استقرارًا, والأكثر قوة, وأنهم قوة إقليمية يمكن للغرب الاعتماد عليها في الحفاظ على مصالحه في الشرق الأوسط.
إن المدقق يجد أن رؤيتهم ومعتقداتهم في كل ما سبق قد استخلصوها من تاريخهم المكتنز بالصراعات والحروب، خاصة تاريخهم الفارسي الصفوي، وأيضًا تاريخ الأنظمة الفاشية والدكتاتورية مثل الماركسية اللينينية.
إن رؤية ملالي إيران للعالم، خاصة جيرانهم، تنطلق من أنه: في كل مرة تنكفئ فيها إيران على نفسها يتزايد احتمالات تفككها، والعكس صحيح. وبناءً على ذلك ترسخ لديهم سياسة، قوامها العدوان ومحاولات التدخل والتمدد الخارجي، وتكريس (ولاية الفقيه)، وتصدير الطائفية والمذهبية والإرهاب, وبناء قوة عسكرية تدعم أطماعهم. ولتوضيح ذلك فإنه في بداية القرن التاسع عشر كانت شعوب إيران قد انشغلت بالصراعات السياسية مع الحكام القاجاريين؛ الأمر الذي أدى إلى إعلان انفصال بعض الحكام المحليين عن السلطة المركزية. وزيادة على ذلك احتدم التنافس الاستعماري الروسي - البريطاني على إيران؛ ما أرغم حكامها آنذاك على توقيع معاهدات أفقدتها سيادتها، خاصة ما بين عامَي (1813 و1828م). وقد تنبه إلى ذلك الملك «ناصر الدين شاه» الذي اعتلى السلطة في إيران بين عامَي (1848 - 1896م) وهدد جيرانه، واستولى على إمارة عربستان العربية وغيرها، وساعده في كل ذلك التوسع والعدوان تأييد ودعم دول استعمارية له.
ومن هنا كان إصرار ملالي النظام الإيراني على التدخلات في شؤون الدول يجسد تواصلهم مع أطماع وفلسفات إيرانية قديمة معتمدة على أساليب وطرائق جديدة؛ فمنذ اندلاع الثورة الخمينية والنظام الإيراني يمارس الأساليب المضللة، والكذب، والشعارات الزائفة التي تمثل خديعة كبرى للعالم أجمع، والعالم العربي والإسلامي خاصة؛ وذلك بزعمهم مناصرتهم للقضايا العربية والإسلامية بينما هم في حقيقة الأمر كانوا - وما زالوا - وراء تصدير الطائفية, ودعم الإرهاب، والتدخلات السافرة في شؤون الدول. وقد تكشفت للعالم العربي والإسلامي، بل للعالم أجمع، أهدافهم، وأن نظرية «ولاية الفقيه» التي يسوِّقون لها ليست إلا بغرض الهيمنة وكسب النفوذ, ولاسيما أن كثيرًا من فقهاء ومراجع الشيعة يعتبرونها نظرية غريبة على الشيعة، ولا تحظى بالقبول لديهم, والواقع يشهد أنهم إذا تمكنوا من أي دولة من خلال عملائهم فإنهم يحولونها إلى دولة غير مستقرة، كما يحدث الآن في العراق ولبنان وسوريا واليمن، ودول أخرى.
إن المتصفح لمواد الدستور الإيراني يجد أن النعرة الفارسية، واللوثة القومية، والنزعة الطائفية القائمة على روايات مكذوبة ومزورة، هي العنوان الأبرز في منطلقات سياسة إيران الخارجية, ففي المادة الـ(9) من الدستور تنص صراحة على أن «الجيش الإيراني لا يحمي الحدود الإيرانية في زعمهم، بل إنه يتحمل أعباء الجهاد والنضال من أجل بسط حاكمية القانون الإلهي في العالم». وهناك مواد أخرى في الدستور ضد التعايش، والأمن والسلم الدوليَّيْن، فضلاً عن التنظيمات والمليشيات الإرهابية التي تعتبر جزءًا لا يتجزأ من حكومة الملالي في طهران. ومن خلال هذه المليشيات والتنظيمات الإرهابية ووسائل إعلامهم يؤججون مشاعر الأتباع والسذج عبر العتبات والحسينيات والمؤلفات التي تنشر حكايات وقصصًا وروايات لا أساس لها من الصحة. وقد استحضر وحمل لواء تلك الخرافات الخميني نفسه، ورسخها خامنئي فيما بعد (المرشد والولي الفقيه) الذي استغل فراغ المرجعية الشيعية بعد وفاة أبي القاسم الخوئي الفقيه الشيعي العراقي في عام 1991م؛ فتحركت - كما يقال - أطماعه لنقل المرجعية من» النجف» إلى» قم» في محاولة منه لتثبيت الزعامة الدينية التي يدعيها لنفسه، وها هو جنرال الحرس الثوري/ قاسم سليماني يمشط العراق وسوريا والجنوب اللبناني لإخضاعها لولاية الفقيه. أما الفارق بين الخميني والخامنئي فإن الأول قد دخل في حرب صريحة مع العراق، ورفع الشعارات الحاقدة على دول مجلس التعاون، بينما اختار الثاني الانتقال إلى التطبيق ومحاولة التغلغل داخل بعض الدول العربية والإسلامية «دبيبًا» كما يقول المفكر الكويتي عبد الله النفيسي, والمجاهرة بدعم التنظيمات الإرهابية والمليشيات المسلحة، وتصدير الطائفية المذهبية، فكان الثاني أكثر مكرًا وخبثًا وتدخلًا في شؤون الدول من سابقه.
أما تمجيد العرق الفارسي الذي يكيد للسنة فحدث ولا حرج؛ إذ إنهم اعتبروا يوم مقتل عمر - رضي الله عنه - عيدًا من أعيادهم, والقاتل «أبو لؤلؤة المجوسي» هو في نظرهم شجاع تشد الرحال إلى قبره الذي كتبوا عليه: الموت لأبي بكر، والموت لعمر، والموت لعثمان.
وكان دور (الخمس) من المال في دعم الإرهاب والطائفية كبيرًا جدًّا؛ إذ من خلاله يمولون نشاطاتهم الإرهابية، وأعمالهم العدائية, وينشرون طائفتهم وأباطيلهم, ويشترون أتباعهم في كل مكان، ولولا الخمس لاندثر المذهب الرافضي منذ زمن بعيد، فقد كان المال المتدفق من الخمس هائلًا، لدرجة أنه جعل من المرجعيات الدينية الشيعية أباطرة مال وأعمال، يحكمون ويتحكمون في أتباعهم, من خلال هذا الخمس الذي هو ضريبة جبرية، لا يعود بأي نفع على فقرائهم, وإنما يدعم الطائفية والإرهاب ونفوذهم. وأصبحت المرجعيات الدينية أشبه بشركات جباية منظمة، تقدر مدخولاتها في الاقتصاد الإيراني سنويًّا بــ «12» مليار دولار، أو تتجاوز ذلك. كما أن نظام ولاية الفقيه الإيراني يعمل على استثمار أراضي الدول والمجتمعات حال السيطرة عليها، محتكرًا أسواقها، فمثلًا: يقال إنهم يحصلون على «20 %» من عائدات النفط العراقي، أي: الخمس تحت ذرائع مختلفة، ويقومون باستثمار نفط جنوب العراق، وتصديره لحساباتها لضمان ولاءات الشيعة، والحكومة العراقية، ويحتكرون قطاعات اقتصادية في العراق. وبالتعاون مع حزب الله يمارسون تجارة الحشيش والمخدرات، ومع أفغانستان؛ إذ أشير في تقارير دولية إلى ارتفاع حجم الفساد في وسط الملالي؛ إذ كشفت أرصدة «66» شخصية من كبار الملالي أنهم يمتلكون في المصارف العربية والعالمية أرصدة يبلغ مجموع إيداعاتها مئات المليارات من الدولارات.
وتأسيسًا على ما سبق، وتحت ذرائع ملالي إيران بالأمن القومي والفضاء الإقليمي، وخدمة الإسلام، يظل سلوكهم السياسي والإعلامي والفعلي على أرض الواقع مصدرًا حقيقيًّا للإرهاب والقلاقل والطائفية في المنطقة، ليس في الحاضر وحسب، ولكن منذ ثورتهم عام 1979م. فماذا يعني هذا في أبجديات العلاقات الدولية؟
إنه يعني أن فلسفة نظامهم السياسي وسياستهم الخارجية قائمة على ما يسمونه «تصدير الطائفية والمذهبية والإرهاب»، ونظرية «التبري والتوالي» كما يزعمون، وليس ذلك إلا لضمان استمرارية حكمهم وتسلطهم على الشعوب الإيرانية من جهة، ولصرف أنظارها عن أوضاعها الداخلية المزرية، وحالتها المتردية، من جهة ثانية. ومن أدوات فلسفة النظام في تصدير الطائفية والمذهبية والإرهاب: الشحن الطائفي والتحريض ودعم الإرهاب, ومحاولة تحويل أنظار الشباب المسلم السني إلى المذهب الاثنى عشري بمغريات شتى.
والمتتبع لتاريخ التحولات والثورات يعلم أن القرن الماضي شهد ثورات دامية كبرى لا تقاس بحجم ثورة الخميني الصغرى، ولكنها كانت من أقسى الثورات وأشدها ألمًا وظلمًا للشعب الإيراني.
*** لقد شهدت إندونيسيا ثورة استقل من جرائها ما يقرب من 120 مليون مسلم إندونيسي من (هولندا)، وثارت الهند ضد أكبر دولة استعمارية في التاريخ، ونالت استقلالها، وثارت إيران نفسها ضد الإنجليز في تأميم البترول، وطردوا من إيران قبل الثورة الخمينية بثلاثين عامًا، وثارت شعوب كثيرة، وكافحت حتى نالت استقلالها، ولكن ثورة الخميني هي الأكثر شُؤْمًا, والأخطر فسادًا في سيناريوهات الشر، والظلم والإرهاب والاستهتار على مسرح الأحداث الدولية؛ إذ إنها زرعت في العالم حقبة التطرف المذهبي والطائفية والإرهاب بشتى صوره باسم الإسلام زورًا وبهتانًا. وهناك كثير من الأحداث الإرهابية والأزمات الشائكة، والحروب الدامية المرتبطة بالثورة المشؤومة كالحروب والتفجيرات، والسيارات المفخخة، والهجمات على المساجد ودور العبادة, والقتل والخطف والتخريب، والتصفية، بل التهجير لأهل السنة من ديارهم. وانقلب السحر على الساحر، وعلى نفسها جنت براقش؛ وها هو الأخطر قادم في عقر دار نظام الملالي؛ إذ انتفضت الشعوب الإيرانية معبرة عن كرهها وسخطها من نظام الملالي، بعد أن تفاقمت معاناة الأقليات، ومن بينهم العرب، والأكراد، والأتراك، والبلوشستان، وغيرهم. وستنصر إرادة الشعوب الإيرانية وإن طال الزمن.
** **
وكيل جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية للشؤون الأكاديمية - أكاديمي سعودي