د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
أيها القارئ! إنه شيخي فلا تعتب على القلم ما كتب! فقد حثثتُ السير عصر الجمعة الموافق 25/4/1439هـ من رياض نجد لأدرك صلاة المغرب في مسجد الحي (حي المدارس بحوطة سدير) الذي نشأتُ فيه، دخلت البلد بعد أذان المغرب، أوقفتُ السيارة عند المنزل وتوجهت إلى المسجد، ولأول مرة أتلهف إلى الصلاة خلفه والسلام عليه وكأن شيئاً يدعوني! نعم أول مرة أتقصد هذا الفعل، وقد جرت العادة ألا أخطط لمثل هذا، وأنا في منتصف الطريق إلى المسجد أقام المؤذن الصلاة، لم ينته إلا وأنا عند عتبات المسجد فإذا الإمام ليس الإمام، تضايقتُ، انتهت الصلاة ولما أردتُ الخروج من المسجد تبعني المؤذن ليسلم جزاه الله خيراً، سألته مباشرة: أين الشيخ كبير؟ هل هو مسافر إلى مكة؟ قال: لا، بل إلى باكستان، متى سافر؟ قبل ثلاثة أسابيع، وسيرجع بعد أسبوع بإذن الله، شكرته، وتمتمت في نفسي ليس هذا هو الوقت الذي جرت عادة شيخنا أن يسافر فيه.
وفي ظهر غد جاءتني رسالة (توفي الشيخ كبير -رحمه الله- إمام مسجد حي المدراس..)!! لم أصدق، كتبتُ رداً (أبصر ما تقول!!)، لحظات وانهالت علي الرسائل: وا حرَّ قلباه!- رحمه الله-، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف علي خيراً منها.
تأملتُ حاله- رحمه الله-، فإذا هو إمام لمسجد حيِّنا من عام 1405هـ إلى هذا العام، كل هذه المدة قضاها في محراب المسجد وتعليم أولاد المسلمين القرآن، بل لا أعرف أحداً ينافسه في تلك البلد من حيث كثرة الطلاب الذي حفظوا عليه وتعلموا منه، كان يقرأ في شهر رمضان من حفظه، بل مر وقت لم يكن أحد يقرأ من حفظه إلا هو ثم كثروا بعد وجوده في البلد، بل مشايخ البلد أكثرهم إن لم يكن كلهم قد حفظوا عنده.
في إحدى السنوات طلب مني أن أتابع معه في التراويح والقيام فلم يخطئ إلا في موضع واحد وكان في سورة الأعراف وربما كان سبق لسان.
تعلمت منه قبل البلوغ وبعده ومنذ سنين أصلي خلفه حتى استقرت قدمي بالرياض، كان- رحمه الله- صابراً على تحفيظ الطلبة، مثابراً على ملازمة المسجد مع بعد منزله نوعاً ما فكان يأتي إلى المسجد بسيارته الفروض كلها أكثر من ثلاثين سنة، وكان- رحمه الله- يمنحني وقتاً ليسمع مني أجزاءً من القرآن في وقت إجازته نهاية الأسبوع، وربما أرهقته بذلك، وكان لا يتململ ولا يضجر، في إحدى الختمات عليه- رحمه الله- لما وصلت سورة العنكبوت أخطأت فيها عدة مرات، فغضب وطلب مني أن أذهب لحفظها، فقلت: إني قد حفظتها وهذا غلط مقبول! فقال: اذهب فاحفظها وكان حازماً، فذهبت ثم رجعت إليه، فقرأتها، وأخطأت فتعجب كيف يقع ذلك، فأخرني قليلاً حتى ذهب الطلبة، وطلب مني أن أقرأها مرة أخرى فاستقامت لي في ذلك الوقت.
ربما أنابني لتدريس الطلبة إذا كان مريضاً، فكنت أعجب كيف أمكنه ضبط هذا العدد، وهم من بلدان مختلفة، وفي أعمار متفاوتة.
طلبتُ منه أن يجيزني فأجازني، وقد كانت تعطي جمعية تحفيظ القرآن جوائز عينية ومالية، فإذا دُفعتْ إلي أخذت المال وكان مالاً رمزياً يناسب تلك المرحلة العمرية، وأما العينية فغالباً كانت (غترة بيضاء ونحوها) فكنت أهديها إليه، رداً لبعض فضله.
قال لي: إن الشيخ عبدالرحمن الفريان- رحمه الله- هو الذي أتى به من باكستان مع مجموعة من المدرسين، وأن الشيخ منصور الجوفان قاضي البلد في ذلك الوقت- سلمه الله- ذهب إلى الرياض لأخذ بعض مدرسي القرآن للتحفيظ في حوطة سدير، فأجرى مقابلة مع الشيخ كبير ومع غيره، سألت الشيخ كبير ماذا سألوك؟ فقال: سئلتُ عن صفات الله، فقلت: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} إثبات ونفي، يقول فاطمأن الشيخ منصور إلي فطلبني.
اتصل بي مرة وقال: اختبار ختم القرآن في الشهر القادم، فقلت: لا حاجة لأن أختبر! فقال: لازم تختبر! فقلت: يا شيخ لا تجبرني على ما لا أريد، فقال: هل يضرك ذلك؟ فقلت: وهل يفيدكم ذلك شيئاً؟ قال: نعم! فقلت: سأختبر لأجلك فقط، ولن أزيد عن أن آخذ درجة النجاح عند اللجنة! فقال: طيب! حضرت وقت الاختبار، وسُئلتُ عن أحد عشر مقطعاً، ومما أذكره هنا استطراداً أن اللجنة قالت: اقرأ أول سورة الحديد، فقرأت حتى بلغت قوله تعالى: {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فسكت، فطلب مني إكمال الآية التي بعدها فسكت، فقال له: الذي عن يسارهم صح عليه (بصير)، فقال: لا، ثم أبصر أنه أخطأ.
أذكر مرة أن أحد جيران المسجد كان معداً لبحث قبل التطور المشهود في الأجهزة، وقد جمع الآيات التي في بحثه على بطاقات ليسجل أمام كل آية رقمها واسم السورة، فيثبتها في بحثه، وقد طلب مني ومن شاب آخر أن نقرأ الآية على الشيخ كبير فيخبرنا بالسورة ورقم الآية إن تيسر له، فكنا نتناوب على الشيخ في الجلسة أقرأ الآية فيقول مباشرة في سورة كذا آية كذا فنفتح المصحف للتأكد، وربما قال: لا أذكر رقمها لكن هي في آخر السورة في جزء كذا ونحو ذلك، حتى انتهت البطاقات في وقت يسير!
كانت جمعية التحفيظ إذا جاءها مدرس جديد جعلته عند الشيخ كبير- رحمه الله- لمدة أسبوع ليتعلم منه كيفية التدريس.
في سنة من السنوات احتاج المعهد العلمي لمدرس قرآن فتعاقدوا مع الشيخ كبير، فدرس القرآن.
أمضى أكثر من 34 سنة إماماً للمسجد، ومدرساً للقرآن، كان يدرس بعد الفجر، وبعد العصر، وبعد المغرب.
وإذا أقامت جمعية التحفيظ حفلاً جعلوا بعض الطلبة يقرؤون ما تيسر ليسمع الحضور منهم، وأحياناً يضعون كرسياً للشيخ كبير ليصحح للطلبة عند الخطأ.
أقترح على الإخوة في بلدية حوطة سدير أن يسمى أحد شوارع البلدة باسم الشيخ كبير- رحمه الله- ففضله لا يجحد، ومعروفه لا ينسى، وكذلك لعل إدارة فرع الشؤون الإسلامية بسدير تجعل اسمه على أحد المساجد عرفاناً وامتناناً، وكذلك جمعية تحفيظ القرآن تجعل دورة مكثفة لحفظ القرآن وتطلق عليها اسم الشيخ- رحمه الله-، وتطلق على بعض الحلقات التابعة لها.
وها أنا في نهاية المقال أقول: ما أقصر الحياة فإنه لم يدر في خلدي أن أبا عثمان سيفنى بهذه السرعة، وتفتلت روحه غِرة، فقد كان ملء إهابه، أراه في تلك السنين السالفة خمس مرات على الأقل في اليوم مع ساعة المغرب التي يدرس فيها القرآن.. إيه.. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، مصيبة عظيمة أن يفقد أهل القرآن ومعلمو الخير، ومن لطف الله في قضائه أن كان موت شيخنا في بلده؛ إذ سافر إلى أهله وفي نيته العودة، فاختاره الله بين أهله، قد أنس بهم، وأنسوا به، فسبحان الله، وقد كانت أواخر رسائله عن طريق الجوال ما نصه (قيل لأحد الصالحين ما الأخبار؟ فقال: الأخبار {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}، وهذه خلاصة الحياة، نسأل الله أن ينزلنا وإياكم منازل الأبرار).
رحم الله شيخي الشيخ حافظ قارئ كبير أحمد بن غلام محمد أبا عثمان وغفر الله وأكرم نزله ووسع مدخله، ورفع درجاته، وعوضنا خيراً.
** **
- عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء