د.سالم الكتبي
ربما نلحظ أن المشهد الإيراني بات مختلفًا خلال الأيام القليلة الماضية عن الأسبوعين الماضيين، وأن التظاهرات الشعبية العارمة ضد النظام قد انحسرت وخفت حدتها؛ ما يغري النظام الإيراني بالخروج على العالم للادعاء بأن هذه التظاهرات لم تكن تمثل الشعب الإيراني، وأن من قاموا بها «قلة»، وغير ذلك من مزاعم وأكاذيب.
في المشهد الإيراني الحالي نجد أنفسنا - نحن المراقبين - في مواجهة أسئلة عدة، أبرزها: لماذا هدأت تظاهرات إيران؟ وفي الرد على ذلك أذكّر القراء بأنني قلت في مقال سابق إن التكهن بسقوط مفاجئ للنظام الإيراني تحت ضغط التظاهرات مسألة بعيدة عن التوقعات المنطقية، لأسباب واعتبارات عدة، أولها أن القبضة الحديدية للنظام، التي أسفرت عن مقتل أكثر من عشرين متظاهرًا، واعتقال الآلاف، لن تسمح بسقوط «سلس» للنظام، بل لا بد أن يمر عبر سلسلة من التطورات الدرامية الدموية العنيفة، ولاسيما أن هناك شبكة ضخمة معقدة من المصالح للقادة السياسيين والعسكريين وقادة المليشيات، بما يجعل فكرة سقوط النظام على وقع التظاهرات فكرة رومانسية حالمة، يصعب تحققها في الحالة الإيرانية.
كان هدوء التظاهرات الإيرانية متوقعًا بنسبة كبيرة؛ لأن الحشود تفقد حماسها للتظاهر في ظل دموية النظام، وإصراره على التشبث بالحكم. وما يضاعف هذه الفرضية أن هذه التظاهرات لم تكن تعمل تحت قيادة واضحة تديرها، وتوجه النصائح والتوجيهات للمتظاهرين، بما يحثهم على الثبات ومواصلة الكفاح من أجل الحصول على حقوقهم المنهوبة؛ وبالتالي أصبح غياب المقدرة على تقدير الموقف وبناء تصوُّر دقيق حول تأثير التظاهر والضغط على النظام مع استمرار الحشود والتظاهر أمرًا غير ممكن.
لكن لا يمكن وصف الهدوء بأنه نجاح للسلطة في تهدئة المتظاهرين، بل هو نجاح للقبضة الحديدية في إخماد صوت الحرية؛ فلم تحدث معالجات وإصلاحات ولا حتى وعود جادة بالإصلاح والتصدي للفساد، بل يلاحظ أن التهديدات الأقسى باستخدام العنف والقتل ضد المتظاهرين كانت تصدر عن قادة السلطة القضائية المنوط بها تحقيق العدل ومحاربة الفساد والظلم!
لم تفلح البروفة الثانية (بعد تظاهرات عام 2009) في الإطاحة بالنظام الإيراني، وليس من السهل تكرار تجربة بعض الدول العربية في إسقاط الأنظمة شعبيًّا في إيران؛ لما ذكرت من أسباب آنفًا، وأخرى تتعلق بطبيعة النظام الثيوقراطي الذي قام بغسل أدمغة ملايين الإيرانيين، ويستخدم قوة أمنية وعسكرية مؤدلجة، وليست قوة عسكرية تقليدية يمكن أن تنهار تحت الضغوط الجماهيرية، أو تتقاعس عن توجيه فوهات البنادق إلى صدور المتظاهرين.
التظاهرات الأخيرة كانت أقوى من نظيرتها في 2009، وكانت تمتلك فرصة أفضل للإطاحة بالنظام، وليس صحيحًا ما قيل بشأن عدم وجود انقسامات داخل النظام بشأنها؛ فبالرغم من الجدل حول مصير الرئيس السابق أحمد نجاد، الذي تردد أنه اعتُقل بأوامر مباشرة من المرشد الأعلى علي خامنئي، فإن الثابت أنه أصدر بيانًا يحمِّل حكومة الرئيس روحاني مسؤولية تدهور الأوضاع المعيشية للشعب الإيراني؛ ما قوبل بهجوم من المرشد ذاته، الذي وصف نجاد بأنه «معارض»، كان يتولى مسؤولية الحكم في السابق، ولم يفعل شيئًا.. وقال خامنئي: «الذين كانوا يتولون سلطة البلاد، وكل الإمكانات كانت بيدهم بالأمس، يجب ألا يتحدثوا ضد البلاد، بل العكس عليهم الرد على الادعاءات التي تطلق بحقهم مع تحمُّل المسؤولية».
ثمة عوامل أخرى معقدة، تفسر انحسار تظاهرات إيران، منها أيضًا ارتباط الاحتجاج بالفقر والأوضاع المعيشية؛ إذ تشير تجارب الماضي العديدة إلى أن مثل هذه الاحتجاجات التي يغيب عنها غالبًا المثقفون وأبناء الطبقة المتوسطة لا يكتب لها الاستمرار؛ لأنها غالبًا ما تكون عبارة عن شحنات من الغضب المكبوت الذي يسهل إخماده، سواء بفعل القمع، أو بفعل الوقت!!
وفي الأخير، فإن الهدوء لا يعني التخلص من أسباب الأزمة، وانطفاء جذوة الغضب، بل يمكن أن يكون بداية لعاصفة عارمة، قد تستغرق كثيرًا من الوقت، والعديد من الجولات التظاهرية قد تنتهي بسقوط النظام الإيراني في سيناريو قد يكون مغايرًا لما حدث من قبل في إيران.