عماد المديفر
لربما ظن من يتابع الأحداث من خارج إيران أن آلة الولي الفقيه القمعية استطاعت بوحشيتها المعهودة القضاء على تلك المظاهرات.. بيد أن الواقع هو أن المواجهات أضحت تتخذ أشكالاً جديدة، وأن إيران ما بعد 28 ديسمبر 2017 ليست هي إيران قبل ذلك التاريخ. يقول المحلل السياسي الإيراني «شهريار كيا»: «لا يستطيع النظام أن يقضي على الأسس الكامنة التي أدت إلى الانتفاضة بأي حال من الأحوال؛ وذلك بسبب طبيعة حكم الملالي الفاسد، والقائم على مبدأ ولاية الفقيه؛ لذا فإنه لن يكون قادرًا على الاستجابة لمطالب الشعب الإيراني. وإذا كان النظام يلجأ إلى حملة وحشية دموية لقمع الانتفاضة فإنها سوف تنفجر مرة أخرى في شكل أكثر راديكالية، وسوف تنتشر بسرعة أكبر. ومع تطور الأحداث فإن الانتفاضة تتخذ أشكالاً أكثر تعقيدًا وأكثر تنظيمًا. وبعبارة أخرى فإن الظروف لن تعود أبدًا إلى ما كانت عليه قبل 28 ديسمبر 2017». ويرى «شهريار» أن نظام عمائم الشر والإرهاب في إيران لم يعد قادرًا على السيطرة على الوضع الداخلي، رغم استدعاء جميع القوات، وإنزالها للشوارع.. يقول: «لهذا السبب فإن المتظاهرين ينسحبون، ثم في كل مرة يجدون فيها الفرصة مواتية فإنهم يتجمعون مرة أخرى، والناس تأتي إلى مكان الحدث. إنه كر وفر، وإنهاك واستنزاف لقوات النظام.. الشعب الإيراني ملتزم بمواصلة هذه الانتفاضة حتى سقوط نظام الملالي على الرغم من أن ذلك قد يستغرق العديد من موجات الهبوط والصعود». لم تكن تلك المظاهرات الشعبية العارمة التي تنتشر فيما يقارب الـ100 مدينة وقرية إيرانية، والتي انطلقت شرارتها من مدينة مشهد في أقاصي الشمال الشرقي؛ لتصل إلى أقاصي الجنوب والجنوب الغربي، مرورًا بجميع المدن الكبيرة والمهمة، وليشارك فيها جموع من الشعوب الفارسية، والعربية، والأذرية التركية، والكردية، والبلوشية.. ومن جميع المذاهب والطوائف.. شيعة وسنة وزرادتشية.. وعلمانيين وليبراليين ومتدينين، وفقراء وميسوري الحال، وعمال ورجال أعمال، وطلاب ومعلمين.. رجالاً ونساءً.. صغارًا وكبارًا.. أقول لم تكن تلك مجرد مظاهرات عابرة، أو مشابهة لسابقاتها التي استطاع النظام القمعي وأدها؛ كونها ثورة شعبية بامتياز، لا علاقة لها بأقطاب الحكم المتصارعة تحت مظلة الولي الفقيه من إصلاحيين ومتشددين، بل هي ثورة على الفكرة التي قام عليها نظام الملالي، وكفر بمبدأ «ولاية الفقيه».. رفع فيها المتظاهرون لأول مرة شعرات: «الموت لخامنئي»، «لا نريد الجمهورية الإسلامية»، «لا غزة ولا لبنان.. روحي فداء لإيران»، بل إن بعضهم طالب بعودة الملكية، رافعين شعار: «إيران دون الشاه لا قيمة لها». إنها إسقاط كامل لشرعية النظام القائم بالحديد والنار. لقد كشفت هذه الأحداث للعالم تلك الحقيقة التي لم نفتأ نرددها، وهي أنه لا يوجد في الواقع «جناح إصلاحي» و آخر «متشدد» في بنية نظام الملالي، تمامًا كما كشفت تمثيلية «الانتخابات» والتنافس بين «القطبين» أو «الجناحين» المزعومين.. وأن لعبة «الديمقراطية» المزعومة تلك التي تقوم بها عمائم الشر والمكر والإرهاب هي مجرد خدعة يعرفها الشعب الإيراني، بيد أن هذه الخدعة لا يزال النظام يسوقها للخارج. ورغم ذلك فإن الشعب الإيراني في نهاية المطاف هو الذي يمتلك كلمة الفصل.. يقول «شهريار»: «على النقيض من ثورة عام 2009، فإن الانتفاضة التي اندلعت في أنحاء البلاد منذ أكثر من أسبوعين لا تنبع من الصراعات بين الأجنحة الحاكمة، ولكنها تأتي من خلافات عميقة الجذور بين النظام كله والشعب الإيراني ومقاومته المنظمة. وهذه الاختلافات لها أبعاد اجتماعية - اقتصادية عميقة، فضلاً عن الجوانب الثقافية والسياسية ذات المصداقية والشرعية عند الشعب». ويضيف «كيا»، وهو مسؤول في مكتب العلاقات الخارجية للمقاومة الإيرانية: «في الوقت الحالي، بسبب قطع الإنترنت من قِبل النظام، قد تكون أصوات المتظاهرين لا تصل إلينا، ولكن بركان الغضب الشعبي الذي انفجر لم يعد من الممكن إخماده.. ورغم أن التقارير تتحدث عن ارتفاع عدد المعتقلين إلى ما لا يقل عن 8000، استُشهد العديد منهم تحت التعذيب، بخلاف الذين لقوا حتفهم في الميادين، بيد أن الثورة مستمرة». وضمن السياق ذاته، فقد توقع مراقبون ألا يصادق الرئيس ترامب على تمديد تعليق العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران بموجب الاتفاق النووي إلا أن الحملة الدبلوماسية التي شنها نظام ولاية الفقيه في الاتحاد الأوروبي، وبالخصوص في الدول الأوروبية الثلاث (بريطانيا وفرنسا وألمانيا)، نجحت في الواقع في دفع هذه الأطراف ليس لمجرد إطلاق تصريحات داعمة لاستمرار الاتفاق النووي مع طهران فحسب، بل نجحت في حشدهم في بروكسل لعقد اجتماع مهم وضاغط لوزراء خارجية هذه الدول مع وزير خارجية نظام عمائم الشر والإرهاب في إيران قبيل ساعات فقط من إعلان الرئيس الأمريكي موقف الولايات المتحدة الأمريكية منه، ونتج من هذالاجتماع أن أعلنت مفوضة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي «فيديريكا موغيرني» في مؤتمر صحفي بمعية وزراء خارجية هذه الدول أن «إيران ملتزمة بالكامل بالاتفاق الذي (يحد) من قدراتها على إنتاج الوقود النووي»، وأن «الاتفاق يمنع سباق تسلح نووي محتمل»!.. وبالتأكيد، ينبغي أن لا نفصل هذه التصريحات عن تلك المصالح الاقتصادية الهائلة التي وفرها الاتفاق لهذه الدول مع النظام الراديكالي الوحشي في طهران، رغم ما ترفعه أوروبا من شعارات حقوقية وإنسانية. لذا، كان لا بد من التعامل مع هذه المستجدات؛ لسحب الذرائع والمسوغات الواهية التي قدمها الاتحاد الأوروبي. ومن هنا نفهم القرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي بتمديد التعليق لـ»ثلاثة أشهر» كمناورة ضاغطة على الداعمين الأوروبيين؛ وهو ما ظهر جليًّا من خلال تشديده بأن هذا التمديد يعد «الفرصة الأخيرة» بغرض إفساح المجال لإعداد «اتفاق مكمل» مع الأوروبيين حصرًا بغرض «التصدي للثغرات الكبيرة» في نص الاتفاق النووي. وحدد الرئيس ترامب شروطًا عدة لإصلاح الاتفاق؛ لتبقى الولايات المتحدة فيه، منها «التفتيش الفوري لكل المواقع»، وأن البنود التي تمنع إيران من تخصيب اليورانيوم يجب أن تكون دائمة، وأن الاتفاق النووي يشمل تلقائيًّا برنامج الصواريخ بعيدة المدى، وإلا فلا معنى حقيقيًّا لاستمراره؛ وعليه فمن المتوقع أن تبذل الإدارة الأمريكية جهودًا فعالة خلال المائة يوم القادمة في إقناع الشركاء الأوروبيين بخطورة استمرار هذا الاتفاق على ما هو عليه، وأثر ذلك المباشر على الأمن والسلم الدوليَّيْن، وعلى المصالح الاقتصادية، وحقوق الإنسان، وأن من شأن ذلك أن يزيد من معاناة الشعب الإيراني، الذي يتهم مثل هذا الاتفاق بأنه مساند لآلة القمع الوحشية، في الوقت الذي كان يتوقع فيه مزيدًا من الضغوط الاقتصادية والسياسية على نظام الملالي نصرة لحقوق الشعب المقهور. إن ما حدث من موقف للاتحاد الأوروبي تجاه الاتفاق النووي الإيراني هو آخر ما يتمناه الشعب الإيراني في هذا التوقيت، الذي يعده خذلانًا له، ولحقوقه المشروعة، وامتهانًا لكرامته وإنسانيته المسلوبة، في الوقت الذي ما فتئت فيه أوروبا تتغنى بمبادئ حقوق الإنسان.. إلى اللقاء.