د.ثريا العريض
كان والدي, رحمه الله, يصطحب الأسرة في إجازة نهاية الأسبوع إلى دور العرض لمشاهدة الأفلام؛ وذات المحتوى التاريخي والديني وبعض القضايا الاجتماعية المستثيرة للدموع هي المفضلة لدى والدتي وشقيقاتي الأكبر. أما لدي أنا كطفلة فقد كنت أفضل تلك التي بها أدوار بطولة للصغار, حيث أتعاطف مع انفعالاتهم. ولأن الوالد كان يتقن عدة لغات فقد شملت الحصيلة ما يستجد ويصل دور العرض من الأفلام الأجنبية والشرقية.. فتعاطفت مع «فيروز» المتسولة المشردة في شوارع القاهرة, وصفقت لـ»موجلي» طفل الأدغال الهندي, وذرفت الدموع مع معاناة «جين أير» و»أوليفر تويست» الإنجليزيين.
مع تطور وعيي وتذوقي الفني وحسي النقدي, أتاح لي حضور الأفلام الدينية والتاريخية فرصة للمقارنة بينها؛ كيف يقدم المخرجون الأحداث ذاتها بتفسيرات وتفاصيل مختلفة، مثل ما يتعلق بقصص الأنبياء, وتاريخ الحضارات والدول, وسير الأبطال, تقاطعات مفصلية في تاريخ العالم: قصة آدم والتكوين, والطوفان وسفينة نوح, وتعاليم سيدنا إبراهيم وموسى وعيسى, وظهور الإسلام, وانتشاره والمد الإسلامي والخلافة, والحروب الصليبية, والاحتلال وعمر المختار والرسالة, وكذلك حياة بوذا وكونفيوشوس والهمايانا والماهابهاراتا الهندية. ولم يؤثر ذلك في هويتي وعمق اعتزازي بها وبانتمائي للإسلام, ولكنه علمني أن هناك انتماءً إنسانياً مشتركاً, وتعطشاً وضعفاً بشرياً ومعاناة وتطلعات وطموحات, بغض النظر عن تعدد اللغات وتفاصيل مظاهر الحياة المرتبطة بالمكان والزمان والأنظمة السياسية. معظم الأفلام الغربية كانت تجسيداً لأحداث ومنعطفات حضارية كونية مثل سبارتاكوس وثورة العبيد في روما, والدكتور زيفاجو والثورة البلشفية, وقصة مدينتين عن الثورة الفرنسية, وذهب مع الريح واتحاد الولايات الأمريكية, وهيروشيما مون آمور وصراع التحرر في آسيا. وكان أشدها تأثيراً ما يتطرق لتفاصيل الحروب مثل وداعا للسلاح, ولمن تقرع الأجراس, وامرأتان, والجبل المسحور, حول الحرب العالمية.
الأفلام الهندية اتسمت برسم مفارقات المجتمع كفروق الطبقية, مستقاة من تاريخهم الماضي والأحدث, مثل المغولي الأعظم، وأمنا الهند. لاحظت أن كثيراً من الأفلام تتطرق لبعض نتائج كوارث الطبيعة المعتادة عندهم, والنادرة عندنا, مثل السيول والزلازل, وتتناول ضمنها معاناة الصغار الذين تفرقهم الكارثة عن أسرهم. وفي الغالب يرضي المخرج تطلع المشاهد لنهاية سعيدة: يلتقي الأقارب بعد سنين ليكتشف رئيس العصابة أن القصر الذي يحاول سرقته هو قصر أبيه, ويكتشف الضابط أن المجرم الذي يطارده هو أخوه. فنجد في الأمر مفارقات ومبالغات لا يتقبلها العقل؛ لعلها ما جعلنا نصنف كل تهاويل قصة ما بأنها فيلم هندي, يضخم الحقيقة ويتهمش الجانب المنطقي. وتبَهّر الرواية بفيض من الخوارق البشرية, لتقدم الإثارة المرغوبة سواء كان البطل عنترة أو رام كومار الهندي أو قلب شجاع الإيرلندي.
اليوم, وأنا أعايش أخبار المعاناة الإنسانية يوميا, تبثها فضائيات العالم عن اللاجئين الهاربين من الموت في أراضيهم, جوعاً كالأفارقة, أو حربا كالسوريين, والمطاردين بالعنف والإقصاء كالروهينغا, أتذكر ما جسدته تلك الأفلام الأولى من أهوال, فأدرك مدى صدقها, وأتفاعل بالذات مع معاناة الأطفال الأبرياء في أجواء قاتلة لاجريرة لهم فيها. أحمد الله على الأمن والاستقرار, وأدعوه من أعماق قلبي أن يحمي الإنسانية من جراح الحروب. وأتمنى لمشروعات السينما والمسرح, القائمة والقادمة عندنا, النجاح كرافد مهم للوعي والثقافة.