د. محمد بن يحيى الفال
يعيش العالم ومنذ ثمانينات القرن المنصرم من الألفية الثانية المنتهية، ومروراً بسبعة عشر عاماً انقضت من الألفية الثالثة (2017)، تطوراً مُذهلاً ومتسارعاً ولا يتوقف عند حد في مجال صناعة الاتصال، وكافة الصناعات المرتبطة بها ومنها صناعة الثقافة والإعلام، وهذه التطورات المذهلة في عالم الاتصال جعلت مصطلح القرية الكونية (Global Village)، واقعاً ملموساً للجميع من خلال أجهزة التلفونات المحمولة بأيديهم والتي تمكنهم من التواصل والاطلاع على أحداث العالم حيثما كان موقع تواجدهم.
ولعله من نافلة القول إن الثقافة والإعلام هما ومنذ نشأتهما يمتازان بصفة تميزهما عن كافة المهن الأخرى بكونهما عملين إبداعيين خاصيتهما الفريدة هي الصيرورة والاستمرارية. وعليه فإنه وبربطهما بالتطورات الحديثة في عالم الاتصالات جعلتهما يعملان بوتيرة أكثر تسارعاً وبتدفق هائل لا ينبض وعلى مدار الساعة للمعلومات والأخبار والمعرفة، والذي كان مرده الأول والمحوري هو انتشار شبكة المعلومات الدولية والمعروفة اختصاراً بالانترنت.
ومع الإعلان من قبل سمو الأمير محمد بن سلمان وبدعم وتوجيه من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز عن رؤية المملكة 2030، والتي تهدف أساساً إلي تنويع مصادر الدخل للميزانية العامة للدولة، والحد من اعتمادها على النفط المتذبذب سعره بين الفينة والأخرى كسلعة أساسية وحيدة تعتمد عليها الدولة في ميزانيتها، وهو الأمر الذي سعت إلى تحقيقه كل خطط التنمية الخمسية التي انطلقت خطتها الأولي عام 1970 وحققت إنجازات تنموية كبيرة ومُشاهدة، بيد أنها أخفقت في إنجاز مهمة تنويع مصادر الدخل إلا في قطاع واحد تقريبا وهو قطاع صناعة البتروكيماويات والمرتبطة أصلا بصناعة النفط، عليه ولما يمثله قطاع الثقافة والإعلام والذي ظل يعمل ومنذ نشأته بالطريقة التقليدية من أهمية وفرص استثمارية محتملة ومربحة، ففي بريطانيا كمثال تُمثل صناعة الثقافة والإعلام ما مجموعة 5 في المئة من الاقتصاد الكلي لها، ويوظف قطاع الثقافة والإعلام أكثر من مليوني شخص وذلك طبقاً لإحصاءات وزارة الثقافة والإعلام والرياضة البريطانية، ولتغير الآليات التقليدية لعمل قطاع الثقافة والإعلام في المملكة والتي تعتبره قطاعاً خدمياً لا يهدف للربح أو التنافسية، فقد جاءت رؤية 2030 لتصحيح ذلك، حيث أدرج هذا القطاع ضمن القطاعات التي شملها برنامج التحول الوطني 2020 المساهم لتحقيق أهداف الرؤية والتي حددها البرنامج بسبع نقاط، منها تحديد أهداف استراتيجية للجهات المشاركة في البرنامج ومنها قطاع الثقافة والإعلام، مع ترجمة هذه الأهداف إلى مبادرات تنفيذية تكون محصلتها المتوقعة الآلاف من فرص العمل وبمشاركة مع القطاع الخاص.
وكما أن طبيعة العمل المناط بقطاع الثقافة والإعلام إنجازه ضمن رؤية 2030 تحتاج للمؤهل والقادر لتحقيقه، فكان اختيار خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز للدكتور عواد صالح العواد لتولي حقيبة وزارة الثقافة والإعلام، لينطلق بأعمال الوزارة نحو أفق جديد يرتكز على خبرته المتراكمة في عالم الاستثمار، حيث عمل رئيساً لمركز التنافسية الوطني ووكيلاً لمحافظ الهيئة العامة للاستثمار لشئون الاستثمار ومستشاراً للشئون الاقتصادية والمالية بإمارة الرياض، إضافة لعمله كسفير لخادم الحرمين الشريفين بجمهورية ألمانيا الاتحادية، وهو المنصب الذي جاء منه لمنصبه الحالي كوزير للثقافة والإعلام، ونرى نتائج هذا الاختيار واضحة بعمله بإيقاع متسارع وغير مسبوق في فترة قصيرة جداً لا تتعدى أشهر، لم تكمل سنة بعد منذ توليه لمنصبه، وذلك بتحديث آليات عمل وزارة الثقافة والإعلام والهيئات الإعلامية العاملة تحت مظلتها وهي هيئة الإذاعة والتلفزيون، الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع، هيئة وكالة الأنباء السعودية والهيئة العامة للثقافة، وذلك لتحقيق الأهداف الأربعة الاستراتيجية التي أنيطت مهمة تنفيذها بوزارة الثقافة والإعلام وهي تطوير بيئة محفزة للأنشطة الثقافية، رفع مستوى الوعي بقرارات وإنجازات الحكومة، تعزيز صورة المملكة داخلياً وخارجياً وتنمية الصناعة الإعلامية والصناعات ذات العلاقة وتعزيز تنافسيتها عالمياً. وأمثلة الإنجازات ذات الطابع غير الربحي انطلاقا من مسئولية المملكة الدينية التي تضعها على رأس هرم اهتماماتها والتي حققها الوزير العواد نراها في التغطية الإعلامية المميزة وغير المسبوقة لموسم الحج المنصرم من خلال حملة «السعودية ترحب بالعالم» والتي تضمنت تغطية لفعاليات موسم الحج بعشرين لغة من لغات العالم والتي دشنها الوزير العواد بتغريده على تويتر جاء فيها: «إن خدمة ضيوف الرحمن شرف عظيم تسعد المملكة بتأديته بكل فخر واعتزاز»، وخدمة الحجاج التي تعتز بها المملكة حكومة وشعباً هي من الاستثمارات غير الربحية في تجمع يلهب مشاعر الجميع من مسلمين وغيرهم لما يحمله من رسائل سلام للعالم توضح سماحة الإسلام الذي يجمع كل الاثنيات والعرقيات الإنسانية في تجمع أضحي مضرب الأمثال في هيبة وجمال المنظر، حيث نجد أن عبارة «إنها مكة» باللغة الإنجليزية يقصد بها التعبير عن ضخامة حدث ما وتميزه.
وقد تزامن مع حملة» السعودية ترحب بالعالم» إطلاق مركز التواصل الدولي والتي تهدف الوزارة منه لأن يكون همزة وصل بينها وبين وسائل الإعلام العالمية بشكل خاص والعالم بشكل عام، ويمكن اعتباره الوسيلة الإعلامية الرقمية المُناط بها إطلاع العالم الخارجي، بتسليط الضوء على كافة مُستجدات النمو والتطور في المملكة في سعيها لتنفيذ رؤية 2030. هذا ما يخص الجانب غير الربحي مما تحقق وشاهدناه من تغطيات إعلامية ناجحة وبآليات مستحدثة لموسم الحج المنصرم، وكذلك لما نراه من تغطية مستمرة لأخبار المملكة من قبل مركز التواصل الدولي على منصة تويتر, وفي الاتجاه الاستثماري في العمل الإعلامي والثقافي نرى بصمة الوزير العواد في ثلاثة محاور رئيسة هي التلفزيون، الإعلام الجديد والسينما.
ففي التلفزيون تمت تعيينات قيادية جديدة يتضح للمتابع بأنها تهدف إلى إعادة هيكلة القنوات السعودية وآليات عملها، وهو الأمر الذي أصدر الوزير العواد قرارات بخصوصه شملت ضم القناة الاقتصادية إلى القناة الإخبارية، وجعل القناة الثقافية قناة عامة، ووقف بث القناة السعودية الثانية لإعادتها مرة أخرى بحلة جديدة وبآليات عمل احترافية.
وقد بدأت تغيرات واضحة في القناة السعودية خصوصاً فيما يتعلق بالمحتوى والبرامج، ومن ذلك ما تم إعلانه بأنها سوف تبث عملا ضخما من بطولة عادل إمام الكوميدي المصري الأشهر في العالم العربي، وذلك بمسلسل سيعرض حصرياً عليها في شهر رمضان المقبل بعنوان «عوالم غامضة».
وانطلاقا من حقيقة النمو السريع للإعلام الرقمي المُعتمد على الحواسب في إنتاج وتخزين وتوزيع المعلومات فقد أبرم الوزير العواد شراكة بين كل من قناة الإخبارية ووكالة الأنباء السعودية بمسمى «شبكة الإخبارية». ومن الواضح في كل هذه التطورات في عمل آليات عمل الشاشة الفضية بأنها تهدف لتحسين بيئة الاستثمار في حصة التلفزيون السعودي من الإعلانات والتي يبلغ مجموعها حالياً وفي كافة الوسائل الإعلامية بالمملكة بما فيها الإعلام الرسمي والخاص حوالي 320 مليون دولار سنوياً، وهو رقم لا يتوافق مع حقيقة حجم الاقتصاد السعودي الذي يُعد من أضخم اقتصاديات العالم، بكون المملكة عضوا في مجموعة العشرين لأهم الدول المؤثرة والفاعلة في اقتصاديات العالم بأسره.
الجدير ذكره هنا أن سوق الإعلانات في دولة من دول العشرين كالولايات المتحدة الأمريكية بلغت 104 بلايين دولار عام 2016، كانت حصة الإعلانات التلفزيونية منها 71 بليون دولار، والإذاعة 19 بليون دولار، ولعل التطور المذهل نراه في حجم الأرباح في الإعلانات في الإعلام الرقمي بأمريكا (يوتيوب، تويتر، فيس بوك وسناب بشات)، والذي حقق مداخيل بلغت 83 بليون دولار. وعليه نرى اهتمام الوزير العواد بما يمثله الإعلام الرقمي (الإعلام الجديد) من مستقبل واعد خصوصاً للقطاع الخاص برعايته لجائزة وزارة الثقافة والإعلام للإعلام الجديد، والتي فاز بها 10 مرشحين من ما مجموعه 140 مرشحاً، تم التصويت لهم من قبل المتابعين والمهتمين بوسائل التواصل الاجتماعي.
ولعل هذه الخطوة التي بدأ بها الوزير العواد لدعم الإعلام الرقمي هي نواة لنشأة صناعة إعلام رقمي جديد بالمملكة، ولتكوين شركات له تعتمد في تمويليها على دخل الإعلانات، ولتتحول من جهود فردية إلي عمل مؤسسي يوفر فرص عمل واعدة للمهتمين به، يذكرنا ببدايات الصحافة السعودية وتحولها من صحافة الأفراد إلى صحافة المؤسسات الصحفية.
لعل الاستثمار الأضخم في صناعة الثقافة والإعلام نراه واضحاً جلياً بالقرار الذي صدر بالسماح بالعروض السينمائية في المملكة، والبدء في قبول عروض الشركات الراغبة في الاستثمار في هذا المجال، والذي أعلن الوزير العواد خلال استضافته من قبل الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني في مؤتمرها السنوي بأنه يؤمل أن تحقق السينما إيرادات تبلغ 80 مليار ريال خلال السنوات العشر القادمة، وهو رقم قابل جدا ليس فقط للوصول إليه بل إلى تجاوزه، ففي الولايات المتحدة بلغت المبيعات من تذاكر السينما لسنة واحده فقط للعام 2015 مبلغ 40 بليون ريال، إضافة إلى 20 بليون ريال أخرى لمبيعات الأغذية والمشروبات التي توفرها دور العروض السينمائية لمرتاديها.
وهناك قيمة إضافية أخرى لقرار السماح بالعروض السينمائية في المملكة تتمثل بأن القرار سينتج عنه حتماً نشوء صناعة للسينما في المملكة ستكون قوة ناعمة لتعزيز صورة المملكة الإيجابية في العالم الخارجي والتي تشوبها الكثير من السلبيات بسبب تركها للآخرين ليشكلوها حسب أهوائهم، والتي في أغلبها معادية ومضللة، وللمملكة موروث ثقافي هائل سيكون عوناً لتقديم أفلام ستغير الكثير من الصور النمطية السلبية عنها (Stereotype)، كذلك فالمملكة حباها الله بمناظر طبيعية خلابة ستنقلها صناعة السينما السعودية المرتقبة للعالم المتعطش لمعرفة المزيد عن بلادنا وثقافتها ومورثوها الديني والحضاري.
والأمر الإيجابي الواجب ذكره هنا أن صناعة السينما المرتقبة في المملكة لن تبدأ من المربع الأول، وذلك بوجود العشرات من السعوديين والسعوديات الذين لهم خبرة متمددة لسنوات في صناعة السينما ونال بعضهم جوائز تقديرية في مهرجانات دولية.
رؤى الوزير العواد المنطلقة من رؤية المملكة 2030 هي روي آن أوانها لنقل الثقافة والإعلام من الآليات التقليدية إلى صناعة تنافسية تدر أرباحاً وتقدم جودة في المحتوى للمتلقي، ومع قول ذلك فإن لكل صناعة ولتزدهر وتنمو فلا بد لها من دعم في البداية لتحقيق ذلك، دعم مربوط بالنتائج وجودة المنتج، والجدير ذكره وبهذا الخصوص أن الحكومة الفيدرالية الأمريكية قدمت دعماً لوسائل الإعلام الأمريكية من خلال إعلانات حكومية بلغت قيمتها 760 مليون دولار للفترة بين أعوام 2006 وحتى 2015، وبمعدل 88 مليون دولار سنوياً.
خلاصة القول: كل المؤشرات المقترنة بالإنجازات على أرض الواقع تؤكد أن صناعة الثقافة والإعلام في المملكة تنطلق وبسرعة نحو أفق أرحب ومستقبل مشرق.