د. خيرية السقاف
اندثر من عادات المجتمع الجميلة الكثير, وحين نتأمل علاقات الناس في الوقت الحاضر فإنها تتماهى مع إيقاع حياتهم المتسارعة, الخاطفة فكثيرهم يستطعم شرائح ساخنة في طريقه للعمل, وكوب قهوة يرتشفه على عجل, وسلاماً بأطراف الأصابع يلقيه على من يذهب عنهم, حتى بعضهم يتمم ترتيب ملابسه, وهو يركض لعمله, ..
وحين فقد الناس هدوءهم, وأناتهم, فقدوا استمتاعهم بعلاقاتهم, ولعل أهمها العلاقات الأسرية, والجيرة, والرفقة..
أصبحت في الغالب اللقاءات العائلية بموعد في مطعم على وجبة غداء, أو عشاء,
وتمر الشهور لا يرى فيها الأخ أخاه, ولا العم أبناء أخيه, ولا الخالة بنات أختها,
أما الشباب من ناشئة الأسر فأكثرهم لا يعرفون أفراد أسرهم, لا تجمعهم إلا مناسبات الأحزان والأفراح أو لا تفعل, إن التقوا فيلتقون في مناسبات متباعدة في الزمن..
أما الجيران فلا يكاد جار يلقي السلام على جاره إلا متى تصادفا في اللقاء..
أما البيوت فداخل وحشة في الحجرات المغلقة في انتظار ضيوف لا يأتون, وأهل لا يزورون..
الهدايا بينهم في المناسبات, ترصد لها الميزانيات خشية أن يُنقدوا لتواضعها إن كانت زهيدة الثمن, حتى إن رفع فيها الذوق, ولاح فيها جمال الانتقاء!!..
غابت الأطباق من القدر اليومي للجار, ولفَّة القماش للجارة, وكيس الحلوى المشكلة للصغار, وتلك الهدايا الموسمية كسوة في العيد, وسجادة في رمضان, وحلوى يوم العيد, وشربة زمزم في القدوم من ديار لديار..
غابت مراسم الألفة, والمحبة, والقربى, والجيرة في أوجهها الجميلة, ومسالكها البهية, وآثارها الحميمة إلا ما ندر وبين بقايا الجيل الذي مضى!..
تسأل من هذه, أو ذاك في أكثر المواقف حاجة لأن يكون هو من ترمي في محضنه همك, وأساك, فتجده الأقرب البعيد..
وتتعرّف مصادفة على من كان لا بد أن تكون أواصرك معه ليست منقطعة, ولا منفرطة..
تحاول أن تتذكّر وجوهاً كنت تعرفها تماماً ونسيتها فتجدها لجار كان أقرب من القريب وبعُد, أو لزميل كان ألصق بك في نشأتك فأقصته التيارات, أو لقريب هو من أهلك أخذته أمواج المحطات..
العادات الجميلة التي فُقدت تماماً كما فُقدت الكثير من الآثار المندثرة, تلك التي حلَّ مكان طينها الأسمنت, ومكان نبعها الصهريج, ومكان نخلها, وطلحها, وسدرها الناطحات...
وفي حين تجْمُل الأماكن بتطور أبنيتها, ومعالمها, ومضمون عقول ساكنيها, فإنها تدكن بفتور علاقاتهم, وشرخ جدرها, وإقامة السدود بين وشائجها بضمور عادات الوصل, ومسالك الود,
وحلول الجفاف في ثرى النفوس
وامتداد اليباب في فضائها!!..........