في 3-3-1433هـ عصراً دخلتُ أم الحجل وهي مزرعة بشقراء, وقصدتُ مجلساً أرى من نوافذه ثلاثة رجال سلمتُ عليهم فلما استقرت يدي في يد الرجل الثالث رحب فأطنب, وهش وبش وأجلسني بجواره, حتى ظننتُ أني أعرفه منذ سنين! وإنما هو اللقاء الأول.
ما ألطف روحه, وأحسن مجلسه, وأكرم حديثه, إنه الشيخ المؤرخ الأديب الكريم أبو محمد عبدالرحمن بن محمد بن إبراهيم السدحان, ولد سنة 1355هـ كما أخبرني، وفي الأوراق الرسمية عام 1352, كان رحمه الله طلق المحيا, دائم البشر, لين الجانب, يؤنس الجليس, حديث عذب, ولسان بذكر الله رطب، أخبرني أنه أعدَّ كتاباً عن اليمامة, تناول فيه جميع الدويلات التي كانت في نجد إلى عصرنا, والولاة الذي تولوا في نجد، وتحدث فيه عن السيارة الذين ينقلون البضائع, وعن الصحابة الذين قدموا منها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكتب عن الشعراء فيها وحنينهم إلى نجد.. وأنه رجع في تأليفه وإعداده إلى أكثر من ثلاثمائة مرجع وقد انتهى منه, ولم تتيسر طباعته في علمي إلى الآن بسبب ارتخاء من دُفِع إليه الكتاب ليشرف على طبعه ولم يفعل.
كان رحمه الله يُنشد الشعر, ويحفظ منه شيئاً كثيراً, له قصيدة عن مدرسة سديرة التي درس فيها، وقال: إني يعتز بهذه القصيدة كثيراً, سألته متى قالها, فقال: عام 1416 أو 1417 هـ. قال رحمه الله: كنا نبغض المدرسة كعادة أكثر الطلاب! لكن لما كبرنا اشتقنا إليها, وإلى ذكراها, يقول:
أين الطريق الذي حتى الحصاةُ به
أكاد أحضنها شوقاً إلى صدري
وأين مدرسة الطين التي نثرت
من طينها عن خُطانا أطيب العطرِ
عبدالمجيد الجبرتي نعم المدير لها.. آخر ما قال -رحمه الله-.. لقيته بعد أن أجرى عملية في عينه فقال: إن دكتور العيون وأثنى عليه خيراً لما جاء ليفحص العين دمعت, فسال دمعها على الخد, فمسح الدمعة بيده! فابتسمتُ, فقال الدكتور: لم الابتسامة؟ فقلت: لا شيء يذكر, فقال: أخبرني ماذا قلت؟ فإذا بأبي محمد قد نظم أبياتاً بغير الفصحى..
ابتلي رحمه الله بلاءً عظيماً إذ فقد سبعة من عائلته (هم زوجه وثلاثة بنين وثلاث بنات) سقط المنزل عليهم عام 1395هـ, وكان وقت المصيبة يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله اللهم صل وسلم على رسول الله, وكان يدعو والناس يُخرجون أهله من تحت الأنقاض: اللهم اربط على عقلي وديني, والقصة مشهورة. وقد كتب رحمه الله رثاءً تدمع له العين, وحدثني أنه رأى في المنام أنه على مرتفع يقول: كأني أنظر إلى بلدتي شقراء فإذا ابن باز -رحمه الله- يقول له: يا عبدالرحمن هذا رسول الله أتى, فسلِّم عليه, فقمتُ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقبَّلتُ جبينه ويديه, فلما استيقظتُ كتبتُ إلى شيخنا عبدالعزيز بن باز أخبره, فكتب جواباً عليه.
حضر دروس الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله-، وكتب عنه مقالة لم تنشر جاء فيها:
(ماذا عساني أقول عن عالم كبير وفقيه شهير، ومتحدث بليغ، ماذا عساني أقول عن عَلَم من أعلام الإسلام ومن الراسخين في العلم، إن اللسان ليكل، وإن القلم ليقف عاجزاً عن إحصاء فضائل شيخنا الكبير صاحب السماحة الشيخ المرحوم - عبدالله بن محمد بن حميد -رحمه الله وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين-.
رأيتُ في المنام قبل وفاته بفترة قصيرة أن منارة المسجد الحرام الشرقية قد انهارت، فأفزعتني تلك الرؤيا، وسألته عنها، فقال: (خير إن شاء الله، ولكن لا تحدث بها أحداً).
كان -رحمه الله- ذكياً، سريع البديهة، قوي الشخصية، سريع الحفظ، لديه حافظة قوية، إذا سمع النص حفظه لأول مرة في الغالب.
علمت في عام 1396 هـ أنه كان يحفظ أكثر من مائتي رقم تلفون في مدينة الرياض وحدها.
كان يحب الدعابة والطرفة المليحة البريئة، من ذلك: أنني كنت مواظباً على حضور دروسه لكني أتغيب كثيراً، فقال لي ذات مرة: (يا عبدالرحمن، أنت مثل الشمس في الغيم تصحي وتغيّم).
عرفته -رحمه الله- قبل وفاته بحوالي ثلاث عشرة سنة تقريباً، عرفته أباً حنوناً، وأخاً مواسياً، وصديقاً وفياً، ومعلماً ومؤدباً وناصحاً، وقف معي في محنتي ومصيبتي حينما فقدت ستة من أولادي مع أمهم في شهر ذي الحجة عام 1395 حين سقط عليهم بيت طيني في مدينة شقراء وتوفوا جميعا -رحمهم الله-. واساني وسلاني وسرَّى عني بعض الهموم، وعندما طلبت إجازة استثنائية من دائرة عملي (مصلحة معاشات التقاعد) وذهبت إلى شقراء أوصى بي فضيلة الشيخ المرحوم- إبراهيم بن سيف رئيس محكمة شقراء وقتها.
كان -رحمه الله- من الزهد والورع والكرم على جانب عظيم، له المعرفة التامة في العقيدة والتفسير والحديث والفقه والفرائض، وكان -رحمه الله- آية في اللغة العربية، معرفة وتعليماً، بل كان إماماً في كثير من العلوم، وله من سعة الاطلاع ما جعله من مراجع المسلمين.
تخرج على يديه كثير من العلماء، له كلمة مسموعة لدى الكبير والصغير والخاص والعام، وكان موضع الثقة والتقدير من ولاة الأمر ومن علماء المسلمين في كثير من بلدان العالم الإسلامي.
استفدت منه الكثير في علوم الشريعة، وأكثر ما استفدت منه في اللغة العربية، وخاصة في علم النحو.
كان -رحمه الله- ذات يوم يشرح لنا (المنصوبات من الأسماء) فقلت له: يا شيخ -عفا الله عنك- ثلاثة من المنصوبات تتشابه عليّ، وهي الحال, والمفعول لأجله, والتمييز الملحوظ، فكيف أفرق بينها؟ فقال رحمه الله : الأمر بسيط، الحال يصلح جواباً لـ(كيف)، مثال: أقبل الرجل ماشياً، كيف أقبل الرجل؟ الجواب: أقبل ماشياً.
أما المفعول لأجله فيصلح جواباً لحرف الاستفهام: (لماذا؟)، لماذا جئتَ؟ الجواب: جئتُ رغبة في العلم.
أما التمييز الملحوظ فيصلح جواب: (ماذا) بدون اللام، مثال: امتلأ الإناء، ماذا؟ الجواب: امتلأ الإناء ماءً.
ففهمتها وأصبحت من أسهل وأحب النحو إلى قلبي) اهـ.
أخبرني رحمه الله أن الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله قبَّل رأسه لما رآه بعد المصيبة مواسياً ومعزياً, يقول: فكان الشيخ من أعظم المواسين لي رحمه الله.
كان الشيخ أبو محمد رحمه الله وصولاً يبادر بالاتصال والسؤال, لما بلغه خبر وفاة الشيخ سعد الحصين رحمه الله اتصل بي من فوره معزياً ومثنياً على الشيخ بما يعرفه عنه.
تولى خطابة جامع المانع ومصلى العيد بشقراء سنين عدداً, وقد خطب بهم الجمعة التي تسبق وفاته رحمه الله, توفي يوم الأحد الموافق 13-4-1439هـ، وصلي عليه عصر يوم الاثنين بجامع المهنا بشقراء ودفن في مقبرة شقراء الجديدة, فرحم الله أبا محمد, وأسبغ عليه الرحمات، وبموته قُوِّض مجلس من مجالس الأدب والتأريخ، أسأل الله أن يجمع أبا محمد بأهله وأحبابه في الفردوس مع نبينا محمد عليه من ربه أفضل صلاة، وأتم تسليم.
** **
- عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء