.د.عبدالله بن محمد الشعلان
مصطلح «التقنية» هو التعريب الذي اقترحه مجمع اللغة العربية بدمشق، واعتمدته الجامعة العربية وبعض الدول العربية كمصطلح مُصاغ ومُعرّب من لفظ «التكنولوجيا». والتكنولوجيا كلمة أعجمية ذات أصل يوناني، تتكوّن من مقطعين، كلمة «تكنو» التي تعني حرفة أو مهارة أو فن، وكلمة «لوجي» التي تعني علم أو دراسة ليصاغ الكل في كلمة «تكنولوجيا» بمعنى علم الأداء أو علم التّطبيق؛ وهي من أهم ظواهر ومعطيات العصر الحديث بل من أكثرها إثارة للتساؤلات والتفسيرات والجدل؛ لما لها من عميق الأثر وأبعده في أداء الإنسان المعاصر ومناحي حياته المختلفة في الطب والزراعة والهندسة والميكنة والاتصالات ووسائل إنتاج الطاقة واستخداماتها المتنوعة.
يُعد نقل وتوطين التقنية من الركائز المهمة التي تعتمد عليها الدول النامية لتحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفع، يضعها في قائمة الدول المنافسة في مجال التصدير، وتقليل الاعتماد على الواردات من دول أكثر تقدمًا اقتصاديًّا وتقنيًّا. ولقد تباينت اتجاهات وآراء العلماء والمفكرين حول التقنية الحديثة؛ إذ يرى المتفائلون منهم أنها ستسهم بدور فعّال في دفع العجلة الاقتصادية والصناعية خطوات إلى الأمام لإنجاز الأعمال، وتحسين وسائل الإنتاج، وتحقيق مستويات أفضل للحياة الإنسانية.. بينما يذهب المتشائمون منهم إلى أنها قد تسهم في تجميد طاقات الإنسان الذاتية، وتعطيل قدراته العقلية وملكاته الإبداعية.
لقد كان للتقدم العلمي والتقني المذهل في عالم اليوم دور كبير في التأثير على ميادين الحياة المختلفة، وتسهيل أساليب العمل، واختصار الوقت، وتطوير وسائل الإنتاج لرفع كفاية المُنْتَج، وتحسين نوعيته. وإذا كانت التقنية تمثل عملة ذات وجهين فإن الوجه الآخر يمثل ارتكازها أساسًا على إبدال الإنسان بالآلة؛ وبالتالي تتبدّى بعض الجوانب السلبية لها.
إن استيراد التقنية من الدول الصناعية المتقدمة قد يكون أمرًا سهلاً وميسورًا، وبخاصة إذا توافرت الموارد الاقتصادية والبشرية في الدول المستوردة. ومع أن عملية الاستيراد قد تستقطع جزءًا كبيرًا من الموارد والإمكانيات المادية إلا أنها قد لا تكون الحل الأمثل لتطويع التقنية والاستحواذ عليها وامتلاكها وتوطينها. إن الحل الأمثل ربما يكمن في مدى الاستعداد والأخذ بزمام المبادرة في عملية النقل والتطويع والتوطين. ولكي تكون عملية التوطين والاستفادة من التقنية مجدية يجب أن تتم من خلال عملية منظمة للتنمية الذاتية التي ترتكز أساسًا على بناء الفرد وتأهيله وتوجيهه الوجهة الصحيحة، ثم تأتي بعد ذلك عملية الاختيار الواعي بين أنواع التقنية المتباينة، واكتساب وتوطين أفضلها الذي يلبي الاحتياجات الفعلية والأساسية للمجتمع. وعند عملية الاستحواذ على التقنية يجب أن يكون هناك معايير وضوابط محددة، منها التواؤم مع طبيعة المجتمع، وقيمه الإنسانية والأخلاقية، ومرتكزاته الدينية والروحية؛ لأن التقنية وإن نجحت في مكان ما فليس بالضرورة أن يكون هذا معيارًا للنجاح في مكان آخر.
ولعل التعليم وإعداد الكوادر البشرية المؤهلة لهو المرتكز الأساس لضمان نجاح عملية تطويع وتوطين التقنية؛ فاستثمار الطاقات البشرية وتأهيلها هما القاعدة الصلبة التي ترتكز عليها الدول كمطلب جوهري في نموها وازدهارها اقتصاديًّا وثقافيًّا وتقنيًّا.
وهناك عوامل كثيرة تؤثر في نقل التقنية من الدول المتطورة إلى الدول النامية، منها - على سبيل المثال - العامل العقائدي والاجتماعي والاقتصادي، وكذلك كفاية الموارد وتوافر العامل البشري المؤهل. كما تبقى للسياسات الدولية تأثيرها في عمليات النقل وتسارعه.
إن الاهتمام بالتقنية هو مطلب ملحّ؛ إذ إنها من أهم روافد تقدم دول العالم المعاصر ماديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا.. فإن ما أنجزته اليابان - مثلاً - بسبب تقدمها التقني بعد نهاية الحرب العالمية الثانية لخير دليل على ذلك؛ فقد تحولت خلال فترة زمنية قصيرة نسبيًّا من دولة محطمة متداعية إلى دولة ناهضة، تنافس الدول الصناعية الكبرى بريادتها العلمية، وسبقها الصناعي، وتفوقها التقني.
إن من جملة الأهداف التي نسعى لها من خلال نقل التقنية أن نطوعها بما يناسب قدراتنا البشرية ومواردنا الاقتصادية؛ فالطموح إلى حياة أفضل لهو الشعار الذي ترفعه الأكثرية الكبرى من الشعوب النامية في عالم يعج بالحركة والإنتاج والتقدم العلمي المذهل. إن الإبداع والتطوير في التقنية هو أحسن طريق يؤدي للتفوق والنهوض الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والعسكري.
والتقنية هي إدراك حِسّيٌ لتفاعل العقل مع الآلة، وابتكار مكوناتها وأدائها. وهذا التفاعل بين التقنية الحديثة والقيم الأخلاقية هو حجر الزاوية للحضارة الإنسانية. والتقنية هي معالجة للمصادر الطبيعية كشيء يستغل إشباعًا لرغبات الإنسان، والتركيز على إثبات وجوده في هذا الكون.
والتقنية تأتي على أساس الأهمية المعارة للمعرفة كمصدر للفهم، ومقياس للنوع، كذلك التنظيم الواعي في تنمية الفكر الإنساني كجزء من اكتناه المجهول، والبحث عن الحقيقة. إذن، نحن الآن في مواجهة تقنية نوعية وتجربة فريدة في تطويعها وتوطينها. إن السيطرة على النوعية في تحقيق مستويات الكفاية والجودة وتحسين وسائل التدريب وتطوير الأبحاث كلها أمور مرتبطة بالجانب البشري الذي يكاد يكون أهم العناصر في نقل التقنية المتطورة إلى البلدان النامية. ومهما يكن من أمر فإن توطين التقنية في بلد ما يخدم عملية التنمية، كما أن عملية التنمية تخدم عملية توطين التقنية. ومن شأن العوامل البشرية أن تدعم هذه العلاقة بين توطين التقنية ونموها. ويأتي هذا الدعم من خلال عملية الضبط البشري في الاتجاه الموازي لمقومات واحتياجات التنمية، ولإحباط التحديات التي تواجهها في وقت واحد. ومن شأن هذا الدعم أن يكسب الصناعة تفوقًا في الأداء لحساب النمو والتطور. وقد يدعو التوطين لحساب النمو أو النمو من خلال التوطين إلى استقطاب صناعات وابتكارات جديدة؛ لكي تقوم وتتكامل معها.
إن الحضارة (أي حضارة إنسانية) تقوم على التغيرات التقنية المستجدة، وهي شكل من أشكال الثقافة التي يتعلمها الإنسان، وتصبح بالنسبة له من المقومات الرئيسة في ارتباطه بالحياة واستمراره بها؛ فالمعرفة التقنية والعلمية التي في متناولنا تكفينا للقضاء على أعدائنا الأربعة: الفقر والجهل والتخلف والمرض، وتهيئ لنا كذلك بيئة نظيفة آمنة، نعيش في كنفها حياة أفضل.
إن الأمل الأكبر معقود على دَور العلم ومؤسساته كقوة علمية ومعرفية موجهة في أي مجتمع منوط بالتقنية ومعطياتها؛ فالإنسان المعاصر يزداد تفهمًا للاكتشافات العلمية والمخترعات الحديثة والاكتشافات المستجدة مما يحفزه على التعمق في البحث والاستقصاء؛ ومن ثم الابتكار والاكتشاف؛ لذا تم اكتشاف الفضاء وتسيير المركبات الفضائية للاتصالات واستغلال الطاقة الشمسية والتحكم عن بُعد وتحلية المياه وتحولات الطاقة من صورة لأخرى، ونقل الصور على موجات محملة. كذلك استنباط الموصلات وأشباه الموصلات المفرطة في التوصيل والدوائر المتكاملة والخلايا الضوئية.. وكل (أو جُل) هذا أدى إلى التصميمات الدقيقة والموجات متناهية الصغر وتخزين الطاقة في خلايا دقيقة.
وفيما يأتي سنستعرض بعضًا من تجارب دول كانت تعد من دول العالم الثالث، بيد أنها تبنت التقنية، واتخذت منها مطية؛ لتنطلق بها في مناحي التنمية والتطور والارتقاء والتصنيع؛ لعلنا من هذه التجارب نستلهم دروسًا وعبرًا، تضيء أمامنا الطريق، وتزيل منه العقبات، وتعودنا على الصبر والتأني وبذل الجهد الدؤوب، والعمل الجاد في تبني هذه الظاهرة العجيبة في عصرنا الحديث من أجل الوصول إليها، والحصول عليها، وتوطينها في بلداننا العزيزة.
التجربة الهندية:
الهند موئل الديانات المختلفة، واللغات المتعددة، والطوائف المتباينة، ما فتئت في أذهان العالم العربي، وبخاصة في دول الخليج العربية، تكون بلادًا متصفة بسمة الفقر والعوز والتخلف، حيث نرى انتشار العمالة الهندية لدينا تمتهن وظائف متدنية، وتمارس أعمالاً شاقة.. وكل ذلك لقاء أجور زهيدة، بيد أن الهند مع بداية التسعينيات الميلادية بدأت تخطو نحو الازدهار، وبخاصة في مجال تقنية المعلومات وصناعة البرمجيات الحاسوبية، ونجحت فيه، وتمكنت معه في استقطاب الشركات العالمية في مجال تقنية المعلومات وصنع البرمجيات التي أصبحت بسببها مدينة بنجالور في وسط الهند مركزًا عالميًّا لشركات تقنية المعلومات؛ إذ تشير البيانات من واقع سجلات اتحاد شركات البرمجيات الهندية (تاسكوم) إلى أن مبيعاتها من قيمة البرمجيات وخدماتها الفنية قفزت من 6 مليارات دولار في عام 2002 إلى ما يربو على 100 بليون دولار في نهاية عام 2015. ونتيجة لنجاح الهند في توطين تقنية المعلومات في مجتمعاتها فلقد انتشر خبراء التقنية الهنود في أسواق العمل العالمية في مجال تقنية المعلومات. ومن نتائج هذا الاكتساح التقني أعلنت شركة أوراكل قبل سنتين تقريبًا عزمها على زيادة عدد موظفيها في الهند إلى الضعف، أي من ثلاثة آلاف إلى ستة آلاف خلال سنة واحدة فقط، حتى أضحت الهند مركزًا رئيسًا للدعم الفني لهذه الشركة وغيرها من الشركات العالمية؛ ما أتاح لهذه التقنية خلق فرص وظيفية وافية وراقية لمواطني الهند مما يدل على المستوى المعرفي التقني الذي تقوده صناعة المعلومات.. ولم يتأتَّ هذا النجاح الباهر من فراغ؛ إنما ارتكز على دعائم عدة، من أهمها الكثافة السكانية الهائلة في الهند، التي تعتبر ثاني أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان. ويساعد على ذلك انتشار المؤسسات التعليمية المتخصصة في إعداد المؤهلين في مجالات تقنية المعلومات. أما الدعامة الثانية فهي العامل اللغوي المتمثل في كون اللغة الإنجليزية هي اللغة المهيمنة في الهند؛ وهي بالتالي المهيمنة على قطاع تقنية المعلومات مما ساعد مثل ذلك على توجه الشركات الهندية إلى الاهتمام بجودة المنتج، والحصول على شهادات الجودة من منظمات عالمية معترف بها على مستوى العالم. لذلك كله أضحت الهند دولة رائدة في تطوير حلول برمجيات متقدمة.. وتبدى ذلك في العديد من الممارسات الناجحة لها في ميادين متعددة، مثل أساليب التجارة الإلكترونية وقواعالبيانات بكل أنماطها وأنماط المحاسبة والنشر الإلكتروني مما حفز الشركات العالمية للاعتماد على مثل هذه الطرائق، وتبنيها وتطبيقها. إن ما أحرزته الهند في مضامير تقنية المعلومات وصناعة البرمجيات ليعتبر بكل المعايير نجاحًا باهرًا، لم يأتِ بمحض المصادفة، بل تمخض عن تخطيط واعٍ وعمل متقن وتنفيذ سليم.
التجربة الكورية:
استطاعت كوريا الجنوبية إنجاز قفزة سريعة في مسيرة انطلاقتها وتطورها، وحققت نهضة شاملة في كل المجالات، سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو التقنية أو التعليمية؛ مما مكنها أن تتبوأ موقعاً مرموقاً في الاقتصاد العالمي. ولا غرو أن هذا النمو السريع والنجاح الباهر كان نتاجًا لتجربة رائدة في ميدان التطور الشامل الذي تميزت به كوريا الجنوبية، بل انفردت به دون غيرها من دول العالم الأخرى.
وقد كانت هذه التجربة جد قاسية بالنسبة لكوريا؛ إذ تعرضت لدمار كبير بعد استقلالها من الاحتلال الياباني عام 1945، وحتى بعد الاستقلال؛ إذ انقسمت كوريا إلى كوريتين (جنوبية وشمالية)؛ لذا تكبدت الجنوبية من جراء هذا الانقسام والصراع بينهما الكثير من مرافقها الحيوية، كمحطات الكهرباء والمساكن والمصانع، هذا بالإضافة إلى الخسائر البشرية التي وصلت إلى 400 ألف قتيل. ولكن في عام 1961 بدأت كوريا الجنوبية الخروج من ذلك النفق المظلم وتلك الفترة الحالكة التي تمثلت في التوجه إلى تأميم المصانع والوحدات الإنتاجية لتوجيهها إلى إنتاج ما تحتاج إليه الدولة وفقاً لرؤيتها، إضافة إلى تبني سياسات تسعى إلى تحفيز الصادرات؛ بهدف توفير العملات الخارجية التي تساعد على تدعيم ميزان المدفوعات وتوفير الموارد المالية اللازمة لشراء احتياجات الدولة من الأسلحة والتقنيات اللازمة للإنتاج؛ لذا كان ثمة اهتمام نحو التوسع في تأسيس قطاعات اقتصادية جديدة، وتبني سياسات تعليمية حديثة، من شأنها زيادة حجم الاستثمارات والصادرات. كما أن كوريا الجنوبية تبنت توجهًا نحو الاقتصاد الحر لترك مساحة أكبر للقطاع الخاص للمشاركة في التنمية التقنية والاقتصادية والصناعية. ويعتبر القطاع الصناعي من أهم القطاعات في كوريا الجنوبية؛ إذ توسعت في الصناعات التقنية بفضل التطور الكبير في سياسات التعليم، والدخول في مجال النانو تقني وصناعة المتحركات الآلية (الروبوتات). كما اهتمت كوريا الجنوبية بصناعة الأجهزة الكهربائية المنزلية وبناء السفن، وتقنية المعلومات.. فعلى سبيل المثال جاءت شركة «سامسونغ» للإلكترونيات على رأس القائمة في الأجهزة المنزلية، مثل التلفزيونات والشاشات وأجهزة الاتصالات؛ إذ بلغت مبيعاتها في العام الماضي 48.2 بليون دولار، تليها شركة «إل جي إلكترونيكس»؛ إذ بلغت مبيعاتها 36 بليون دولار. وبالنسبة لصناعة السيارات جاءت شركة «هيونداي موتورز»، وشركتها الشقيقة «كيا»، ضمن قائمة أفضل 10 شركات؛ إذ بلغت مبيعاتهما 51.9 بليون دولار.