د. عبدالحق عزوزي
لما فازت منذ سنوات حركة نداء تونس التي يرأسها الباجي قائد السبسي بالانتخابات التشريعية التونسية، تلته حركة النهضة بزعامة الغنوشي، الذي أقر بالهزيمة وهنأ في جو من السلم الاجتماعي والشرعية الدستورية والنزاهة الانتخابية، غريمه السياسي، قبل أن يعلن هذا الأخير أنه لن يحكم تونس بمفرده، كتبت في أعمدة هاته الجريدة الغراء أن هاته النتائج في بيئة انتخابية عادية جعلت أكثر من متتبع يراجع أوراقه: فقليل هم الذين تكهنوا بأن حركة النهضة حتى ولو انخفض عدد المصوتين لها في الداخل والخارج، لن تبقى في الرتبة الأولى، وأن السبسيين وهم شخصيات قادمة من اليسار ووسط اليمين ورموز من النظام السابق، سيحصلون على الرتبة الأولى لأنهم في نظر الجمهور رموز الإدارة.
تونس التي كان أزيد من 80 في المائة من الكراسي البرلمانية تعطى باسم القانون للتجمع الدستوري الديمقراطي في عهد بن علي، استحقت التهاني الحارة.... فلا الجيش كان خائنا أو متهوراً، بل كان محايدا وحاميا للدولة والمؤسسات ومحارباً لرموز الإرهاب الداخلي والعابر للقارات، ولا النخبة السياسية التونسية كانت دون المستوى المطلوب، ولا الإسلاميون (وهذا هو المهم) كانوا متعنتين أو أصحاب غلو، ولا كان هناك تدخل خارجي مخرب للقشرة الحامية للدولة كما في ليبيا واليمن والعراق ولبنان وغيرها.
ولا غرو أن أفضل درس استقيناه من التجربة التونسية هو أن التعاقد على مشروع مجتمعي هو أساس النظام الديمقراطي. فلا يكفي نظام سياسي أن يقوم على أساس دستوري، وأن يشهد زيادة لا حصرية في عدد الأحزاب، وأن يجسد ذكاءه في النظام التمثيلي والنيابي.. فلحظة البناء الديمقراطي تستلزم ترجمة تلك النوايا الحسنة والأدوات السياسية السليمة والإجراءات القانونية إلى نظام للمجتمع، وإلى حياة سياسية قارة تتحول فيها سلطة الدولة إلى ميدان لمنافسة حرة ونزيهة وشريفة بين كل القوى والجماعات السياسية المتنوعة، بمعنى كما يقول حراس العلوم السياسية المقارنة أن البناء السياسي المتكامل يبدأ من الاعتراف بالحق في التمثيل وصولا إلى الاعتراف بالحق في السلطة، وليس مجرد إجراءات تحسينية لتنفيس احتقان اجتماعي أو امتصاص ضغط خارجي.
ولكن ماذا نرى هاته الأيام؟
توالت صدامات بين متظاهرين وقوات الأمن في تونس لأيام، احتجاجا على ارتفاع الأسعار وإجراءات التقشف المعتمدة مؤخرا في إطار موازنة 2018. وفي طبربة غرب العاصمة، نزل العشرات من المتظاهرين إلى شوارع المدينة التي شيعت الثلاثاء رجلا قضى خلال احتجاجات ليل الاثنين الأسبوع الماضي؛ وفي سليانة الواقعة في شمال غرب البلاد، رشق شبان قوات الأمن بالحجارة والقنابل الحارقة وحاولوا اقتحام محكمة في وسط المدينة، في حين ردت عليهم الشرطة بقنابل الغاز المسيل للدموع؛ وفي القصرين الواقعة في وسط البلاد الذي يعاني من تفشي الفقر، تجددت الصدامات بين المتظاهرين وقوات الأمن حيث حاول شبان تقل أعمارهم عن20 عاما قطع الطرقات بالإطارات المشتعلة وعمدوا أيضا إلى رشق عناصر الأمن بالحجارة....
نجحت تونس في الجانب السياسي خلافا للعديد من الدول كالعراق وليبيا، ولكنها لم تنجح في الجانب الاقتصادي والتنموي رغم مرور سبع سنوات على ثورة الياسمين؛ والسلم الاجتماعي لا يترسَّخ جذوره بمجرد حلول ربيع الانتخابات بصفة دورية ومستمرة؛ فالسلم الاجتماعي معادلة صعبة يدخل فيها السياسي والتنموي، إذ بدون تنمية اقتصادية وتنمية مستدامة تَعوَجُ أغصان شجرة الدولة، بل قد تذبل ويصيبها الأذى ويحكم عليها بالأمراض إذا لم تعمم الحكمة بسرعة، وترو الجذور بماء التنمية البشرية المستدامة والحكامة الجيدة؛ وبالإمكان أن تنجح هذه العملية إذا كان هناك عقلاء مختصون يخططون وينفذون نمطا للتنمية يمكن الإنسان بدلا من تهميشه من توسيع فرصه وخياراته، ويقوم بالتركيز على دور البشر ككائنات فاعلة لا مستهدفة بتدخلات محدودة أو مقيدة في الزمان والمكان. فالتنمية هي انبثاق ونمو كل الإمكانات والطاقات الكامنة في كيان معين بشكل كامل ومتوازن، سواء كان هذا الكيان فردا أو جماعة أو مجتمعا، والتنمية ما هي إلا تغيير قوي وكبير يحرك الأمة نحو ذلك النوع من الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية التي تقررها وتحددها لنفسها؛ وتكون بذلك التنمية وسيلة للتغيير نحو الأنماط المجتمعية التي تسمح لها، ليس فقط بتحقيق القيم الإنسانية المثلى، بل وأيضا إلى زيادة قدرته على التحكم والسيطرة على نمو مجتمعه، هذا هو المطلوب.