أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: من خصوصية الرقعة أن جزيرة العرب دارٌ خالصةٌ للمسلمين؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما)).. رواه مسلم في صحيحه من حديث عمر -رضي الله عنه-.. وقال -صلى الله عليه سلم-: «لا يبقين دينان في أرض العرب».. متفق عليه من حديث عائشة -رضي الله عنها-؛ فلما انطلق عبدالعزيز بما منحه الله من عقل حصيف، ومشاعر تقية: كان محكوما بدين ربه عن خصوصية جزيرة العرب من جميع أرجائها؛ وهو أنها دار الإسلام، ومعقل العرب الخلص؛ لهذا لا يجوز أن تمنح فيها الجنسية العربية كافرا، ولا يجوز إحداث الكنائس والبيع والصوامع ومعابد الوثنييين.. قال الأستاذ أحمد عسة كما في كتاب (الملك عبدالعزيز ورؤيةٌ عالمية) ص 345: ((وقد ربح جلالته معركة توطيد سيادة بلاده، كما أصر على تنفيذ الحدود الشرعية على كل مسلم يسكن الحجاز وإن كان يحمل جنسية أجنبية؛ لأن أرض الحجاز أرض المسلمين دون تمييز؛ كما لم يسمح بإقامة محاكم أجنبية تنظر في القضايا التي يختصم فيها الأجانب بينهم، أو يكون أحد الأجانب طرفا؛ وذلك في زمن كانت المحاكم الأجنبية منتشرة في البلاد العربية الأخرى؛ فكانت شاهدة على انتقاص سيادتها الوطنية على أرضها».
قال أبو عبدالرحمن: ومن خصائص جزيرة العرب: أن لها بشرى من عند الله سبحانه وتعالى كما في حديث ابن عمر -رضي الله عنه- ما الذي رواه مسلم في صحيحه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ؛ وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها»؛ فتأست الدولة السعودية بهذا الحديث؛ فكانت مأوى لكل مضايق في دينه الإسلامي؛ لأنها دار العرب؛ والدولة عربيةٌ صميمة، والعرب مادة الإسلام؛ لخلائقهم التي لا يزاحمهم فيها أي جنس؛ ولهذا استقبلت دولته بكل ترحيب كل من أراد أن يأوي إليها من الغرباء الذين حيل بينهم وبين ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه -رضي الله عنهم-.. ومن خصوصية الرقعة: أنها هي مشرق النور الإسلامي، وفيها الكعبة المعظمة؛ وفيها المسجد النبوي؛ وفيه الروضة المطهرة؛ لهذا فالجزيرة أنسب المواقع لأن تكون مركزا للسياسة الدينية؛ لتوسطها بين أقصى آسية شرقا وأقصى إفريقية غربا، كما أن الجزيرة أسلم الأقاليم من الأخلاط: جنسية، وأديانا، ومذاهب، وأنها أبعد الأقاليم عن مجاورة الأغيار، وأنها أفضل الأراضي لأن تكون ديار أحرار؛ لبعدها عن الطامعين والمزاحمين؛ نظرا لفقرها الطبيعي؛ وكون عرب الجزيرة هم مؤسسي الجامعة الإسلامية؛ لظهور الدين فيهم، وكذلك من يتبعهم من العشائر القاطنة بين الفرات ودجلة، والنازحين إلى إفريقية؛ ولهذا استحكم فيهم التخلق بالدين؛ وهم أعلم المسلمين بقواعد الدين؛ لأنهم أعرقهم فيه، ومشهودٌ لهم بأحاديث كثيرة بالمتانة في الإيمان؛ فهم أكثر المسلمين حرصا على حفظ الدين، وتأييده، والفخار به؛ ولا سيما أن العصبية النبوية لم تزل قائمة بين أظهرهم في الحجاز، واليمن، وعمان، وحضرموت، والعراق.
قال أبو عبدالرحمن: هذه الخصائص ذكرها الدكتور الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله تعالى في كتابه (خصائص جزيرة العرب) ص 63 - 66؛ ولكنه ذكر أضعاف أضعاف ذلك؛ وهي عناصر مكررة لا تخرج عما ذكرته في هذه النبذة الموجزة.. كما ذكر الدكتور بكر ما يقتضي أن جزيرة العرب لا يجوز تنكيس علمها؛ لأن فيه شهادتي لا إله إلا الله سبحانه وتعالى، وأن محمدا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ وذكر هذا البيت:
وما الدين إلا أن تقام شرائعٌ
وتؤمن سبلٌ بيننا وهضاب
ونسب هذا البيت إلى حسان بن ثابت -رضي الله عنه-، وليس البيت من شعره، وليس فيما اطلعت عليه من نسخ ديوانه مطبوعة ومخطوطة.. وفي ذهني أن هذا البيت للإمام ابن حزم -رضي الله عنه- ضمن أبيات أخرى، أو من روايته عن أحد شيوخه، أو من روايته عن أحد معاصريه وإن لم يكن من شيوخه؛ ولعل من يحقق ذلك يسعفني بقائل هذا البيت، مع ما معه من أبيات.
قال أبو عبدالرحمن: قبل الدكتور بكر أبو زيد أورد الشيخ محمد رشيد رضا في مجلة المنار في الجزء الأول من المجلد الخامس عام 1320هـ البيت منسوبا لحسان، ولم يشكك في نسبته إليه، بل بنى عليه بعض الاستنباطات فقال ص 70: ((فلينظر كيف حصر هذا الصحابي الدين في إقامة الشرع والأمن؛ هذا ولا شك أن الحرية أعز شيىء على الإنسان بعد حياته، وأن بفقدانها تفقد الآمال، وتبطل الأعمال، وتموت النفوس، وتتعطل الشرائع، وتختل القوانين))، ولعلي أتحفكم -إن شاء الله- في مناسبة قادمة بما افتراه الهمداني من شعر على حسان؛ وهذا البيت ليس لحسان -رضي الله عنه- بيقين.. وذكر الدكتور بكر في كتابه المذكور ص80-81 قول الأستاذ عبدالله بلخير عن حادثة قتل الملك (غازي)؛ وذلك في كتابه: (عبدالله بلخير يتذكر) ص 451؛ فقد ذكر لقاءه بمعالي السيد (حمزة غوث) الوزير المفوض ببغداد؛ فقال: «قلت له: بأنني جئتك الآن للتشرف بالسلام عليك، وأداء هذا الواجب علي كطالب سعودي [الصواب بصفتي طالبا سعوديا]، ولأنني قد مشيت اليوم في مواكب شارع الرشيد؛ فسمعت من تحدث إلى جمع الناس بصوت عال: بأن المفوضية السعودية لم تعلن حدادها بتنكيس علمها على سارية المفوضية، وأن من استمعوا منه ذلك استنكروه؛ فقال لهم: (تستطيعون أن تذهبوا لحي الوزيرية؛ لتروا المفوضية، وأن علمها غير منشور ولا منكس؛ فرأيت من وطنيتي وواجبي: أن أنسل من بين الجماهير، وأبادر بالمجيء إليكم؛ لأخبركم بما سمعت لمعلوميتكم، وأنتم تعلمون ما لا نعلم.. على أني كنت عازما أن أجد في هذين اليومين فرصة أجيء لزيارتكم، والتعرف عليكم؛ فابتسم السيد حمزة وقد رآني وجلا، وقال لي: اهدأ يا بني: إن علمنا لايرفع منكسا في أي حادث من الأحداث.. وزاد عليها: حتى لا سمح الله لو مات الملك عبدالعزيز نفسه؛ فهذه التعليمات قد صدرت إلينا من الملك عبدالعزيز نفسه منذ بضعة أشهر على أثر استفسارنا منه يوم مات الملك (جورج الخامس): ما الذي نفعل؟.. فبلغت الممثليات السعوديات كلها في الخارج بأمر جلالته: أن العلم السعودي يحمل شهادة التوحيد؛ فلا ينكس لموت أحد، ولا يرفع لمولد أحد؛ وحدادنا في مثل هذه الأحداث أن لا نرفع العلم حتى لا ننكسه، وهذا موقفنا اليوم من هذا الحدث الحزين الذي أحزن الملك عبدالعزيز بدون شك؛ وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله -تعالى-, والله المستعان.