محمد آل الشيخ
يدور في بعض المجالس أحاديث تحمل من الجهل ما تحمله عقلية أولئك الذين حرموا البرقية عندما جاءت إلينا بحجة أنها من ضروب السحر والشعوذة. قد نجد لأولئك البسطاء آنذاك عذرا، بسبب تخلف قدرتهم على فهم وإدراك وبالتالي تصور هذه الآلة الغريبة على بيئتهم، وكما يقولون: المرء عدو ما يجهل. غير أنني لا أجد عذرا لرجل الدين المعاصر الذي (يُحرم) الضريبة التي تأخذها الدولة قياسا بتحريم (المكوس) المحرمة شرعا. من حرموا البرقية، لم يكن لهم أهداف سياسية، أو انتماءات متأسلمة مسيسة، بل قالوا بما وصلت إليه اجتهاداتهم، قياسا بما أوردوه من نصوص شرعية، جعل الأمر يشتبه عليهم، وليس أكثر من ذلك ولا أقل. غير أن الحركيين المتأسلمين ممن حرموا الضرائب، يوظفون الحلال والحرام، وما هو جائز وما لا يجوز، حسب مقتضيات أحلامهم المريضة لإقامة دولة الولي الفقيه السنية على غرار التجربة الإيرانية. وغبي من يقول أن أولئك قد سلموا الراية، واعترفوا بالهزيمة، بعد أن جرمت وحظرت الدولة الحركات المتأسلمة، وعلى رأسها أمهم التي جاؤوا من رحمها (حركة الإخوان المسلمين)، فهم الآن يحنون رؤوسهم للعاصفة مذعنين، ومتى ما شعروا أن الزمن قد تغير لا سمح الله، ولاحت لهم فرصة للعمل والتحرك، فستراهم يعودون إلى ما كانوا عليه في الماضي.
قياس السروريين ومعهم بعض الجهلاء من رجال الدين الضرائب بالمكوس المحرمة، التي كانت في الجاهلية، وحذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم، هو قياس فاسد، أو هو على الأقل قياس مع وجود الفارق. فالمكس وجمعها مكوس، هي (أتاوة) كانت تأخذها بعض القبائل العربية، وكذلك قطاع الطرق، ممن مر في أرضهم، وتُسمى قبل قيام الدولة السعودية (الخوة) باللغة الدارجة، بينما (الضريبة) المعاصرة، وكذلك الرسوم الحكومية على الخدمات، والجمارك، تتقاضاها الدولة المركزية من الأفراد والمنشآت الأهلية، مقابل ما توفره لهم من خدمات في المجالات الحياتية، لتُؤمّن بها لهم أن يعيشوا عيشة هنيئة مستقرة. فالضريبة إذا نظرت إليها من هذه الزاوية (الموضوعية) فإنها نوع من أنواع التعاون على البر والتقوى المندوب شرعا، وفيها مصلحة للجميع. وهي تأتي امتدادا لعقد التراضي الاجتماعي بين الحاكم والمحكومين، في حين أن القبول والتراضي من حيث المبدأ لا يتوفر في المكوس، بل هي تؤخذ بالقوة والإكراه.
الأمر الآخر، والمفصلي، أن الضرائب كمصدر من مصادر تمويل اقتصاد الدول، هي أساس مبدئي لدولة (الوطن) في العصر الحديث، فضرب من ضروب المستحيل أن تقوم دولة بمهامها، وتصرف على موظفيها، وتؤمن أمنها الداخلي والخارجي، ما لم تعتمد على الضرائب؛ وأريد من أولئك الجهلة المتمشيخين أن يدلني على طريق آخر غير هذا الطريق، إذا كانت الزكاة لا تكفي إطلاقا، بما تقتضيه موازنات الدول، كما أن جهاد الغزو الذي كان مصدرا من مصادر الدخل للدولة في الأزمان الماضية، هو اليوم ضرب من ضروب المستحيل.
كان علماء الأصول يقولون: (الحكم على الشيء جزء من تصوره)، إلا أن بعض هؤلاء المشايخ، وبالذات الغلاة المتشددين منهم، يسمحون لأنفسهم الإدلاء بآرائهم، والتصدي للفتوى، وهم - إذا أحسنّا الظن بهم - يجهلون العلوم المعاصرة، الاقتصادية، والمالية، والسياسية، والأهم من كل ذلك الاختلاف الجذري بين الدولة في عصور السلف، والدولة الحديثة في عصرنا.
لذلك فإنني أؤكد لهؤلاء الحركيين على وجه الخصوص أن المواطن اليوم، بما لديه من وسائل للإطلاع، لا يمكن أن يغرروا به، مثلما كانوا يفعلون في القرن الماضي.
إلى اللقاء