د. محمد بن يحيى الفال
لم يفاجأ العالم بانتفاضة الشعوب الإيرانية التي انطلقت شرارتها من مدينة مشهد في أواخر شهر ديسمبر 2017 ضد الظلم والقهر، فهو أمر كان متوقعاً وحدثت قبله انتفاضات سابقة ومتعددة لعل أبرزها انتفاضة الطلاب عام 1999 والتي عمت إيران، وسقط العشرات قتلى نتيجة لها ومئات الجرحى والآلاف من المعتقلين، وانتفاضة 2009 التي اشتهرت باسمها الفارسي «جنبش سبز» والذي يعني «التحرك الأخضر»، إشارة للون الأخضر الذي اختاره المرشح الإصلاحي مير حسين موسوي في الانتخابات الرئاسية التي خاضها ضد محمود أحمدي نجاد، والتي فاز فيها الأخير، وليتأكد للمتظاهرين المحتجين ضد نتائجها بأنها زورت بشكل كبير، ولتعم المظاهرات المنددة بها عموم المدن الإيرانية.
ولعل ما فاجأ العالم في المظاهرات الحالية مرده لسببين رئيسين لم يكونا من قبل ظاهرين في أدبيات المظاهرات السابقة المعادية للنظام، السبب الأول هو أن الانتفاضة الحالية والتي انطلقت شراراتها من مدينة مشهد بشمالي شرق إيران، كان من ورائها بداية محتجون ينتمون عقائدياً للفكر المحافظ المقرب من النظام، وهو الأمر الذي يدحض كل الافتراءات التي حاول مسئولو النظام تسويقها للشعوب الإيرانية بقولهم إن العدو الخارجي هو من حرض عليها، والسبب الثاني ولعله الأهم والأكثر دلالة على اختلاف الانتفاضة الحالية عن غيرها من الانتفاضات السابقة في إيران، هو كونها المرة الأولى التي يحرق فيها المتظاهرون الغاضبون علناً صوراً لرموز الثورة الإيرانية كقائدها وعرابها الخميني ومرشدها الأعلى خامنئي.
وبقراءة ليس فيها لبس أو ضبابية للانتفاضات الإيرانية السابقة والانتفاضة الحالية التي لم تخبُ جذوتها بعد، يتضح بأنها جميعاً وبلا استثناء تهدف لتحقيق غاية واحدة، أضحت من ثوابتها وهي تغيير النظام الكهنوتي الذي جثم على صدور الشعوب الإيرانية منذ الثورة الإسلامية المزعومة، وقد اتضحت هذه الرغبة في أول خطاب للرئيس روحاني بعد اندلاع الانتفاضة، حيث أشار تلميحاً وفي سابقة لربما سيدفع ثمنها لاحقاً، وذلك حين صرح فيما يبدو وبعقله الباطن (اللاوعي)، بأن أهداف المتظاهرين لم تكن للمطالبة بتحسين ظروفهم الاقتصادية فقط، بل كانت هناك أسباب أخرى تتعلق بمناخ الحريات المتاح لهم.
فالصورة الثابتة والواضحة الآن أمام المرشد الأعلى وحاشيته للوضع العام في إيران، هي أن الشعوب الإيرانية في كافة مناطق الدولة قد ملت ووصلت لقناعة لا رجعة فيها بأن على النظام أن يرحل، بعد أن جعل كل مقدرات الدولة في إيران من اقتصاد وثقافة ومجتمع رهينة بأيدي مجموعة من رجال الدين والساسة الفاسدين.
الثابت كذلك وفي ظل حكم الملالي، هو أن الانتفاضة الحالية وكحال سابقاتها تعرضت للقمع الوحشي من قبل قوات النظام، وهو الأمر الذي استدعى الولايات المتحدة للدعوة لعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن لمناقشة تطورات الاوضاع في إيران. وأظهرت كلمات المتحدثين تبايناً حاداً في المواقف تجاه انتفاضة الشعوب الإيرانية فمندوبو الدول الإفريقية واللاتينية وبشكل عام أكدوا بأن ما يجري في إيران هو شأن داخلي ويجب أن يُنظر إليه على هذا الأساس، بينما كان المندوب الروسي أكثر حدة بتأكيده أن دعوة مجلس الأمن للانعقاد لمناقشة أحداث داخلية في إحدى الدول الأعضاء بالأمم المتحدة هو ليس من اختصاص مجلس الأمن، بل إن دعوة مجلس الأمن لمناقشة مظاهرات إيران يُعد وحسب توصيفه إهانة للمجلس، بينما أخذ الأوربيون موقفاً متحفظاً مؤكدين على أهمية الإبقاء على الاتفاق النووي، محذرين في نفس الوقت من خطورة برنامج إيران للصواريخ الباليستية على دول الجوار، وأكد المندوب البريطاني ضرورة توقف إيران عن التدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار والإقليم كما تفعل في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وأكد كذلك على ضرورة توقفها عن تزويد الحوثيين بالصواريخ لتهديد دول الجوار، وجاءت كلمة مندوب دولة الكويت متوافقة مع موقف غالبية دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، حيث أكد على أهمية حفظ استقرار المنطقة من خلال سياسة عدم التدخل في شئون الدول الداخلية وأهمية تعزيز التعاون والاحترام المتبادل بينها، وهو الأمر الذي لم يلتفت إليه نظام الملالي منذ تقلدهم أمور الحكم في إيران، ولم يضعوه في حساباتهم السياسية، رغم النوايا الحسنة والمناشدات الصادقة لهم بضرورة تحسين سلوكهم لأجل مستقبل أمن المنطقة واستقرارها.
جلسة مجلس الأمن حول الأحداث في إيران، كان من الممكن القول بأنها لم تكن ضرورية أو مُلحة ولا تشكل تهديداً للأمن والسلم الدوليين كما صرح بذلك العديد من مندوبي الدول، بيد أن ذلك تشوبه إشكالية قوية وهي بأن الشعوب الإيرانية المنتفضة وفي متغير واضح متعلق باختلاف شعاراتها المناهضة للنظام عن سابقاتها، حيث ردد المتظاهرون خلال الانتفاضة الحالية وفي كافة مناطق إيران شعارات تدعو النظام للتوقف عن تدخلاته في دول الإقليم، وهي التدخلات التي أهدرت أموال الشعوب الإيرانية في مغامرات كلفت المليارات من الدولارات كانت هي أحق بها، وليتضح للشعوب الإيرانية بأن نظامه الذي يضع في دستوره مادة تتعلق بتصدير الثورة، كان ثمن هذه المادة وبالاً وخيماً عليهم وعلى مستقبل البلاد، حيث ألُحقت ثروتها لتنفيذ إستراتيجية تصدير الثورة.
عليه فإن اجتماع مجلس الأمن لمناقشة أحداث إيران لم يكن شأناً داخلياً صرفاً لإيران، وكما حاولت بعض الدول تأكيده خلال الكلمات التي ألقيت، وذلك لاعتبارات سياسية أو لقصور نظر بعضها بالوضع الداخلي الإيراني، والذي امتدت توابعه لتطال دول المنطقة بأسرها، وهو الأمر الذي وعته الشعوب الإيرانية، المتضررة الأولى والتي اكتوت بناره، كما اكتوت كذلك المنطقة لفترة تقارب الأربعة عقود.
المتغير الأهم فيما يحدث في إيران حالياً يتمثل في حقيقة بأنها المرة الأولى ومنذ قيام الثورة الإسلامية المزعومة يتضح للعالم بأن هناك إيران أخرى بدأت تتشكل منذ بداية الاحتجاجات في الثامن والعشرين من ديسمبر 2017، إيران تكافح كل شعوبها التي ثارت ضد الظلم للمطالبة بأن تعيش بطريقة طبيعية تُسخر فيها موارد الدولة لرفاهية ورخاء هذه الشعوب المقهورة والمحرومة من خيرات بلدها.
الثابت المطلق أيضاً والذي لا جدال حوله هو بأن شعوب المنطقة والعالم، وكما هو حال غالبية الشعوب الإيرانية قد سئموا من تصرفات نظام الملالي في إشاعة الفوضى والخراب والدمار والقهر والجوع والمرض في بلدهم وأينما حلوا، نظام كهنوتي مؤدلج بأحلام الهيمنة والسيطرة من خلال حروب وصراعات عبثية، ولسان حال الجميع:
لقد أسمعت لو ناديت حياً
ولكن لا حياة لمن تنادي.