عماد المديفر
لا شك أن الأحداث الجارية في إيران، شديدة التعقيد، وتحتاج لتناول موضوعي وعميق، وعدم الاعتماد على رأي فردي دون مسوغات هنا أو هناك. إذ التناول السطحي للأمور يزيد من تعقيدها، ويفوت علينا الفرص، ويزيد من التهديدات، وهو الأمر الذي تطمح إليه دون شك عمائم الشر والإرهاب في طهران، ونجحت فيه بجدارة إبّان «الثورة الخضراء»، رغم استمرارها قرابة الثمانية أشهر أو تزيد، سقط خلالها عشرات القتلى، ومئات الجرحى، وآلاف المعتقلين، واستطاع فيها النظام قمعها بوحشية، وإدارة الأزمة عبر الدعاية الخارجية الذكية بنجاح، وهو مالاينبغي لنا أن نسهم في تمريره هذه المرة.
وبالتأكيد، فإن نظام الملالي ليس من الغباء بقدر أن يستخدم ذات الرسائل الدعائية التي بثها للخارج تلك الفترة، أو يعيد تدويرها، فالرسائل الدعائية التي يبثها الآن مختلفة، ومبتكرة، لكن التكتيكات والأدوات هي ذاتها تقريباً.. ولتفصيل هذا بحث تخصصي، مستقل بذاته، وليس من مجال للتعمق فيه عبر مقالة أسبوعية.
بيد أن ما قد يستغربه الكثيرون، هو ما ذهب إليه أستاذنا عبدالرحمن الراشد في مقالة له بعنوان «هل الأفضل لنا سقوط نظام إيران؟».. والتي هوّل فيها من «خطورة» سقوط نظام الولي الفقيه بحجتين؛ أولاهما أن النظام قوي جدا ولايمكن «لمظاهرات» أن تسقطه، وكأن أستاذنا نسي قوة نظام الشاه، وسطوته. والثانية أن إيران لربما تصبح مرتعاً للميليشيات وأن «المنطقة الآن تعاني من حالة تدمير لا تحتمل فوضى جديدة، وحروباً أهلية إضافية، ولاجئين بالملايين»..!
من يقرأ هذا الكلام لوهلة، يظن أنه لا يقرأ لأستاذنا عبدالرحمن الراشد، إذ لا يُتصور أنه قد يغيب عن الكاتب المخضرم أن نظام الولي الفقيه ذاته، وبمعيته شريكه «التنظيم الدولي للإخوان المسلمين»؛ هم السبب الرئيس فيما تعانيه المنطقة من «حالة تدمير وفوضى وحروب أهلية ولاجئين».. وأن المنطقة لم ولن تهدأ وتستقر، طالما أن عقول تنظيمات الإسلام السياسي تدير دولاً مهمة في المنطقة، كإيران، أو تتغلغل في أخرى..
الأغرب من هذا وذاك هو ترويج الراشد لما وصفه بـ «الوضع المثالي» والمتمثل - بحسبه- في «ألا ينهار النظام تماماً، بل يغير من سياسته الخارجية ويتوقف عن مشروعه العدواني..»! الإيرانيون أنفسهم يقولون بأن من يعتقد بإمكانية ذلك لا يعرف شيئاً عن نظام الملالي، فضلاً عن أن يعرف ما يدور اليوم داخل الشارع الإيراني، ومسببات هذه المظاهرات والاحتجاجات العارمة، والصرخات المدوية من كافة أطياف الشعوب الإيرانية، على تنوع خلفياتها، واختلاف توجهاتها، ومعتقداتها، وقد وصلت لنتيجة واحدة، واتحدت خلف شعار واحد، وغاية واحدة: «الموت لخامنئي»..!
ذات الرأي الذي حملته تلك المقالة الغريبة، حملته أيضاً تغريدة قريبٌ منها للأستاذ عثمان العمير، تتحدث عن أهمية «استقرار إيران»؛ غير أن من يعرف كيف يمارس نظام الملالي دعايته من خلال باحثين إيرانيين يتم زراعتهم في مراكز الفكر في الشرق والغرب Think tank، وإظهارهم كما لو كانوا (معارضين) لنظام الملالي، وهاربين من سطوته ووحشيته وظلمه، وأنهم ينشدون (الحرية) والانعتاق من (الكهنوتية)، فيما هم في حقيقتهم عملاء للنظام بطريقة غير تقليدية، يصعب أن يرقى إليها الشك، ويقومون بدورهم في تضليل ليس فقط الباحثين والكتاب المخضرمين في الغرب والشرق، بل وصانعي القرار أيضاً، من خلال ما يقدمونه من أبحاث وكتب وآراء وتعليقات مضللة.. يمررونها بذكاء.. فيتأثر بها من يتأثر، أقول من يعرف ذلك؛ يفهم أو يتفهم أن تظهر مقالة هنا، أو تغريدة هناك، لربما كانت من وحي تأثير هنا، أو فكرة هناك.. مررتها آلة الملالي الدعائية بسلاسة، عبر أصوات إيرانية مهاجرة، لربما ادعت أنها ليبرالية، أو تجسدت في هيئةٍ علمانية متحررة، ومن يعرف -على سبيل المثال - من هو الدكتور «تريتا فارسي»، أو من هي المحللة السياسية والكاتبة الإيرانية «كاميليا انتخابي فرد»، وكيف استطاعت التأثير على عدد من الكتاب والباحثين المهتمين بالشأن الإيراني، في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي منطقة الشرق الأوسط؛ يتفهم ما جاء في المقالة، والذي لربما كان من وحي تأثيرات بروبغاندا نظام الملالي الذكية، عبر عملاء يزرعهم وكأنهم أعداء للنظام.. لكنهم في حقيقتهم يسدون له خدمات جليلة..
الأستاذ عبدالرحمن، وبعد تلك المقالة الغريبة جداً، والتي احتفت بها في تويتر وفي غيره، عناصر لطالما ناصبتنا العداء، وحاولت تأطيرها، وإخراجها عن سياقها الطبيعي؛ عاد إلى سابق خطه التحليلي الرصين الذي عرفناه عنه، بيد أني أفكر بصوت مسموع ومقروء، والإنسان الحي بطبيعته كائنٌ تفاعلي يؤثر ويتأثر.. ويفكر ويراجع، ويقرأ ويعيد القراءة، ويناقش ويدافع عن أطروحاته أو يعدلها ويطورها..
كما ينبغي ألا ننساق أيضاً مع من «يُهوّن» من عمليه سقوط نظام الملالي، وأنه من السهولة بمكان إزالته، أو السيطرة على أثر سقوطه فيما لو نجحت ثورة الشعوب الإيرانية. وحتى نفهم أكثر طبيعة ما يجري اليوم في إيران، وهي ثورة شعبية داخلية حقيقية، خالصة،لا علاقة لها بأي مؤثر خارجي، لكنها بالتأكيد تحتاج لمن يقف معها، ويساندها، وبطرق ذكية؛ أضع بين يدي القارئ الكريم ما قاله لي المحلل السياسي الإيراني «شهريار كيا» حول ما رصده من آمال وآلام الشعب الإيراني، واتجاهاته نحو نظام الملالي، ومسببات خروج المتظاهرين في احتجاجات عارمة، وثورة متصاعدة.. يقول: « بعد أكثر من ثلاثة عقود من القمع ونهب ممتلكات الشعب الإيراني وثروته من قبل رجال الدين، الذين هم في حقيقتهم معادون للإسلام، وإنفاق مليارات الدولارات من أموال الشعب لتوسيع أصولهم ومكاسبهم الشخصية والفئوية، وتبديد الثروات لدعم الإرهاب في الشرق الأوسط، ودعم الدكتاتور السوري بشار الأسد، والشعب الإيراني يعي ذلك تماما، أما وقد وصلت الأوضاع المعيشية والحريّة الشخصية لهذه الدرجة من السوء، فقد غلى المرجل، وانفجر الناس، وارتفعت أصواتهم ضد نظام الولي الفقيه في مجمله، وبالكلية، مطالبين بالإطاحة به».
ويستشهد «شهريار»-وهو مسؤولٌ في الشؤون الخارجية للمعارضة الإيرانية- بقول السيدة مريم رجوي، رئيسة المجلس الوطني للمقاومة في إيران، في بيان لها جاء فيه: «إن الاحتجاجات الجارية في مدن مختلفة ضد النظام تكشف عن حالة التذمر والانفجار في المجتمع الإيراني ورغبة الشعب في تغيير النظام. إن انتفاضة الشعب الإيراني في أكثر من 50 مدينة تكشف كيف أن الوضع الراهن، محليا ودوليا، قد حان لتغيير النظام أكثر من أي وقت مضى. وأعتقد اعتقادا قوياً أن السلام والاستقرار في الشرق الأوسط والعالم بأسره، لن يكون ممكنا إلا من خلال تغيير النظام في إيران».
وللحديث بقية.
إلى اللقاء.