قرار مجلس الوزراء الذي صدر قبل عدة أيام جاء كالبلسم على نفوس القطاع الأكبر من المزارعين الذين يمثلون قطاعا مهما من قطاعات الاقتصاد في المملكة, في كل من أصقاع وطننا الغالي وخاصة في الوسط والجنوب، أعداد كبيرة من المواطنين يمارسون مهنة الزراعة منذ أزمان بعيدة ومزارعهم أصبحت شيئا من جزء من حياتهم وفي مناطق مثل القصيم والرياض والزلفي تسمى المزارع بالقصور نظرا لأنها مثل القصر الفخم في تنسيقها وجمالها وكانت في السابق تنتج محاصيل تغطي الحاجة المحلية مثل الحبوب والخضروات والتمور والفواكه إضافة إلى توفيرها لفرص العمل لأهل القرى والمدن من المواطنين، وحين فتح باب استيراد المحاصيل الزراعية من الخارج أصبحت مهنة الزراعة غير مجدية للمزارعين فاتجهوا لزراعة الأعلاف، والقرار الحكيم الذي هو مبادرة من الملك سلمان -حفظه الله- بأيقاف زراعة الأعلاف الخضراء للمساحات التي تزيد على 50 هكتارا هو قرار صائب ومدروس بعناية حيث إنه يستهدف إيقاف المتاجرة بالأعلاف وتحويلها إلى سلعة لجمع الأموال واستنزاف المياه بشكل هائل يفوق سحبه تدفق نهر الفرات لسنة كاملة!!
حيث يزيد السحب السنوي من المياه الجوفية غير المتجددة على 18 مليار متر مكعب من المياه وهذا السحب يتم من قبل مشاريع ضخمة تستخدم رشاشات الري المحوري التي تصب المياه كالمطر المنهمر ليلا ونهارا وبالآلاف في كل مكامن المياه الجوفية شمالا وجنوبا وذلك من أجل بيعها على تجار الإبل الذين يربونها للمساهمة في مسابقات (المزاين) وبيعها بالملايين لا لهدف المساهمة في سد حاجة السوق من اللحوم بل لرفع أسعار الإبل بشكل جنوني فلا تجد مربيا للإبل إلا ويربي الإبل الباهظة الثمن والذي لا تشكل له الأعلاف الخضراء شيئا مقابل ما يجنيه من الملايين مقابل ناقة لا تزيد عن 100 كجم، ولهذا افقنا أمام كارثة كبرى تستنزف المياه وتضخم أسعار الإبل ولا تساهم في الأمن الغذائي بل قناة وهمية لاستثمار الملايين بقيم غير واقعية للإبل، وبالتالي فإن هذا القرار الحكيم سيعيد للزراعة ألقها ورونقها وسيعيدها كمهنة للغالبية من الشعب السعودي إذا تم دعم المزارعين الصغار بحماية منتجاتهم من حرب السلع المستوردة وغير الصحية في الغالب.
وأشيد بهذه المبادرة لأنها من أولى سياسات وزارة البيئة والزراعة والمياه وجهود معالي الوزير المهندس عبدالرحمن بن عبدالمحسن الفضلي الذي يدير ثلاث وزارات كبرى بوزارة واحدة هي الوزارة الأولى في توفير الأمن المائي والغذائي والبيئي وأجزم أن كل دولة لابد أن تأكل مما تزرع ولا تعتمد على الاستيراد حتى للحبوب التي يمكن دعمها بدعم صغار المزارعين، والمعادلة المهمة التي يجب التنبه لها كما يلي:
صغار المزارعين = عدم استنزاف المياه غير المتجددة (أي المياه السطحية ومياه الأمطار)
صغار المزارعين = منتجات صحية وعضوية.
وقرار مجلس الوزراء حدد (في مضمونه) صغار المزارعين بتحديد المساحة التي لاينطبق عليها قرار إيقاف زراعة الأعلاف والأكثر حكمة في هذا القرار أنه جعل لهم خيار زراعة القمح وهذا سيسهم في توجه الكثير من صغار المزارعين لزراعة القمح وأتمنى أن يعاد الدعم لهم ولو بشكل جزئي بشراء الكيلو بريالين أو ثلاثة ريالات بمعنى أن يشترط أن يكون الري بمياه الأمطار كما هو في المنطقة الجنوبية، وكذلك في الري بالمياه المتجددة كما هو الحال في الآبار قليلة العمق (السطحية) والدرع العربي حيث إن ذلك لن يؤثر على مخزون المياه الجوفية وسيزيد من الاكتفاء الذاتي من القمح، حيث إن المزارعين الصغار إذا توفر لهم الدعم الكافي، وحيث إن عددهم كبير فستكون الكميات المنتجة كبيرة وتغطي مختلف مناطق المملكة وستكون التكلفة أقل من الاستيراد أو مساوية له وستكون القيمة المضافة للاقتصاد الوطني كبيرة حتى ولو تجاوزت قيمة المنتج الوطني المستورد حيث سيوفر ذلك مصادر استثمار غير معتمدة على تصدير الثروة القومية (النفط). إن دعم صغار المزارعين يجب أن يكون (استراتيجية) وطنية تنسجم مع الرؤية الطموحة للمملكة (2030) والتي تعتمد على تنويع مصادر الدخل غير المعتمدة على النفط وهذا الدعم يعتمد على عدد من المبررات منها:
أولا: المزارع الصغيرة لا تعتمد على استنزاف المياه (غير المتجددة) ولاتصل آبارها إلى مخزونات المياه الجوفية العميقة والتي تحتاج إلى تكاليف باهظة للوصول إليها ولا يتحمل تكاليف ذلك إلا المشاريع الزراعية الكبرى ومشاريع الأعلاف، حيث تعتمد على مياه الأمطار في المنطقة الجنوبية وبعض الآبار التي تعتمد على ارتفاع منسوب المياه مع هطول الأمطار، وبهذا فهي لا تشكل خطرا على مخزونات المياه، وأكبر دليل على ذلك أن منطقة المدينة المنورة (على ساكنها أفضل الصلاة والسلام) تنتج أكبر محصول من التمور على مستوى المملكة مع أنها تقع على الدرع العربي, وذلك لوجود بساتين متفرقة للنخيل فيها تشكل بمجموعها كماً هائلاً.
ثانيا: المزارع الصغيرة يمكن أن نسميها (المزارع الصحية) حيث إنها لا تستطيع تحمل ثمن المبيدات والأسمدة الكيماوية مما يجعلها تستخدم الأسمدة العضوية, وبالتالي فهي بالفطرة تنتج إنتاجاً صحياً ولكن ما ينافسه هو إنتاج المشاريع الكبرى أو المستورد الذي يعتمد على الأسمدة الكيميائية في زيادة حجم الثمار وسطوع لونها مما يغري بالشراء بثمن أقل من المنتجات المنتجة طبيعيا, وبالطبع فإن تشجيع المزارع الصغير هو تشجيع على (الحياة الصحية) حيث يكلف مكافحة الأضرار والأمراض الناتجة عن المحاصيل غير العضوية أموالا طائلة يمكن إنفاق جزء بسيط منها لتشجيع الغذاء الصحي.
ثالثا: إن المزارع الصغيرة تمثل شريحة كبيرة يملكها مواطنون ذوو باع طويل وخبرة في الزراعة وهم القطاع الأكبر في مهنة الزراعة وبالتالي فإن دعم الشريحة الأكبر من القطاع الزراعي سيبني قطاعاً قوياً منتجاً يمكن أن ينافس المنتجات المستوردة، وسيوفر فرص عمل إنتاجية لقطاع كبير من المواطنين والشباب حيث إن مثل هذه المزارع لا تحتاج إلى أعداد كبيرة من العمالة وبالتالي فذلك سيوفر مصادر دخل لا يمكن أن ينافس عليها العامل الأجنبي
وأخيرا فإنني أتمنى أن تكون (النخلة) مصدرا للدخل بخلاف البترول وذلك بدعم صغار المزارعين بشراء منتوجاتهم من التمور لأن العقبة الكبرى أمام المزارع الصغير هو استيلاء العمالة المتسترة على سوق التمور ومزارع النخيل والشراء منه بثمن غير عادل، وكذلك الخضار التي هي في مجملها تنتج في بيوت محمية تستخدم فيها كل أنواع المبيدات لإنتاج وفير وبالتالي كسد إنتاج المزارع الصغير الذي يجب أن تحميه الدولة ممثلة بوزارة البيئة والزراعة والمياه وذلك بتأسيس شركة (غير ربحية) تقوم بشراء المنتجات من المزارع الصغير وتسويقها، وكل ذلك يأتي منسجما مع رؤية المملكة (2030) التي تهدف إلى تنويع مصادر الدخل وإيجاد مصادر دخل للمواطنين وإيجاد استراتيجية للأمن المائي والغذائي وهو ما تحققه هذه المبادرة حيث تهدف إلى إيقاف الهدر المائي وذلك بتشجيع الزراعة التي لا تعتمد على مخزون المياه الجوفية، وإلى تقليل الاعتماد على الواردات بالاكتفاء الذاتي من المحاصيل الغذائية وخاصة التمور وربما تصديرها.