إبراهيم عبدالله العمار
دولتهم كانت منتشرة حول المشرق الإسلامي اليوم كله، لكن بعد سقوط دولتهم على يد المسلمين، ماذا حصل لهم؟ منهم من أسلم، منهم من ظل على دينه (النصرانية الأرثذكسية) ولغته اليونانية، لكن حصلت انتقالة تاريخية خفية، لا تُدرَك إلا الآن إذا نظرتَ للماضي، وهي أن روسيا هي الإمبراطورية البيزنطية الجديدة.
هذا ما يراه غراهام فولر في كتابه «عالم بلا إسلام»، الذي يرد فيه على الغربيين الذين يظنون أن الإسلام سبب الحروب والخلافات بين المشرق الإسلامي (ما يسميه الغربيون الشرق الأوسط) وبين الغرب، فوضع الكتاب ليبرهن خطأ ذلك، وأن الغرب سبب المشاكل ولو لم يوجد الإسلام، وضرب لذلك أمثلة، ومن أمثلة ذلك... روسيا.
عندما اتخذ الحاكم الروسي فلاديمير الأول قراره التاريخي عام 987م بنبذ الوثنية واختيار الأرثذكسية، دوّى صوت هذا القرار إلى اليوم. اختيار هذا الدين أورث الروس كراهية الغرب الكاثوليكي والبروتستانتي والتوجس منهم، ليس هذا فقط بل أيضاً شعور الدونية تجاه التفوق الغربي التقني والعسكري والسياسي. الروس أيضاً احتقروا المادية الغربية وأحبوا الأعمال الأدبية والفنية التي تمجد المشاعر والطبيعة والروح. الاختلافات بين الحضارتين امتدت لتشمل كل شيء ممكن: الكنائس الغربية سمحت بالموسيقى في الكنيسة بينما استنكر الأرثذكس ذلك واستمروا على الأناشيد الدينية الخالية منها. في الهندسة المعمارية ظل الأرثذكس يصممون القباب بينما هجرها الغربيون واختاروا عليها شكلاً فظاً حاداً (كما يرى الأرثذكس) وهو مستوحى من العمارة القوطية. في الرسم ظل الأرثذكس على الرسم الديني الفائق المثالية والتنميق واختار الغربيون الرسم الواقعي والحرفي، الذي أسخط الأرثذكس لما صوروا الإله تصويراً غير مرضٍ.
وهكذا كما يقول فولر ازدادت الاختلافات ترسخاً والعداوات شدةً بين الروس والغرب، ولم يكن للإسلام علاقة، وترى هذه العداوات على مر القرون السابقة، ففي القرن الثالث عشر هجم الصليبيون الغربيون على جمهورية نوفغورد الأرثذكسية وسُمّيت «معركة على الجليد» لأنها اشتعلت فوق بحيرة متجمدة، وفي القرن السادس عشر شن غوستاف الأول السويدي حرباً على روسيا تحت قائدها إيفان، وفي القرن السابع عشر تأجّجت حروب بين بولندا الكاثوليكية وروسيا، وفي القرن الثامن عشر استعرت حروب ضخمة بين الروس والغربيين منها ما سُمّي حرب الشمال العظيمة التي حصدت مئات الآلاف من الطرفين، وفي القرن التاسع عشر غزا نابليون روسيا وقُتِل فيها مئات الآلاف من الطرفين انتهت بهزيمة نابليون وسحق أطماعه في فتح أوروبا، وفي القرن العشرين غزا هتلر الاتحاد السوفيتي في حرب رهيبة رأت تدميراً مريعاً لكلا الطرفين الروس والألمان.
وسنختم بمشهد مزعج للروس بدأ عام 1991م لما سقط الاتحاد السوفيتي الذي دان بالإلحاد وحارب الدين، وانظر لجموع المنصِّرين من أمريكا وغرب أوروبا وهم يتقاطبون على روسيا ليدعوا الروس إلى مفارقة دينهم واعتناق الكاثوليكية أو البروتستانتية، وعبأوا المدن الروسية بالملصقات والكتب والدعايات الدينية، حتى إن روسيا بعد سنين أقرت تشريعات تحد من الحرية الدينية، كانت مخصصة ليس ضد الإسلام بل تحديداً ضد نصارى الغرب!