د. حسن بن فهد الهويمل
كغيري من [كتَّاب الرأي] مَشْدُودٌ بأمراس كتان إلى صُمِّ قضايا الأمة العربية، المتلوِّنَةِ كالحرباء، والمضطربة كشمس المرآة في كف الأشل.
فحين تتغيّر الأحوال - وهي متغيّرة مضطربة ولا شك - يتغيّر معها القول، وحين تتبدل الخطابات تنزاح معها لغة الخطاب، ونبرته.
المبادئ وحدها هي الثابتة، أمَّا المصالح فكل يوم هي على شاكلة أخرى. السياسة لاتَعرف الثبات، ولا النمطية. والآخذون بعصمها من الكتّاب لهم في كل يوم خطاب، يراوح بين الهدير، والرغاء. والزئير، والمواء، والشكاية، والنكاية.
والتقويم لأي وضع لا يُسْتَمد مدلوله من التحولات، وتذبذب الخطابات، وإنما يأطره الحق، والصدق والعدل.
ما لا مراء فيه أن ثمة سياسةً حميدةً، تأخذ بدرجات الصعود، وأخرى دون ذلك تنحدر في دركات الهبوط. والساسة يُجَدِّفون في بحرها اللجي، ويستبقون المكاسب المشروعة، وغير المشروعة.
المتحرفون، والمتحيزون في عالمها، إما أن تحكمهم في خياراتهم ضوابط الأخلاق، أو محققات المصالح:-
{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً}.
من حق كل أمة أن تبحث عن مصالحها، كما أن من حقها حماية تلك المصالح ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، شريطة إلا تَتَعمد الإساءة إلى الآخر في حالتي: البحث، أو الحماية.
ولكل باحث، أو حامي أدبيات خطابه، وضوابط تحركه، ومن خلالها يُقَوَّم، لا مِن خِلال المتغيّرات التي تفرضها سُنَّةُ الحياة، والكتبة مرتهنون لذلك.
الله جلَّ وعلا: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}. والمخلوق المأخوذ بناصيته، يتقلب مع هذا الشأن. فإمَّا أن يُهْدى، ويُكْفى، وإما أن تحيد به النوايا، والأطماع غير السوية، فينساه الله، وينسيه نفسه، فإن حقق مكاسب في ظل هذا الجزاء، فهي من باب الاستدراج، والامهال:- {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}، {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ}.
الجهلة المثَبِّطون من يتنكرون لحتمية التغيير، ويَعُضُّون على مسلماتهم، وثوابتهم التي اجترحوها بالنواجذ، وبخاصة حين يختلفون مع خصومهم.
لا أريد بهذا [التواكل]، ولا التسليم فـ[كلٌّ مُسَيَّرٌ لما خُلق له]، {وَقُلِ اعْمَلُواْ}، وإنما أريد الفهم السليم، والبحث عن الحق، دون تحكم الأهواء، والشهوات، ولا سيما أن الكتبة هم الراصدون، وهم المزينون، أو المقبحون.
الكاتب الذكي المقتدر يستطيع أن يملأ الرحب بالثناء، أو بالهجاء. وذلك حين يَحْبِسُ عينه في نطاق المحاسن، ويأطر لسانه في محيطها، ولهذا عندما تلاعبت القدرة البلاغية بالمشاعر، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:- [إن مِنَ البَيَانِ لَسِحْرا].
في قصة [الزبرقان بن بدر] و[عمرو بن الأهتم].
وذلك لمجرد أن المتحدث حين رضي، ذكر أحسن ما يعلم. أنا لا أريد هذا، لأنه متصور، ومقبول إلى حَدٍّ ما، وبخاصة أن الرسول لم ينكر، وإنما تعجب.
ما أريده تعمد الناقد تحميل المتحدث، أو الكاتب تناقض المواقف، تبعاً لتحولات الطقس السياسي.
الكاتب القدير لا يمكن أن يرتهن نفسه لخطاب واحد في ظِلِّ تَقَلُّباتٍ سياسيةٍ، مشروعة، وغير مشروعة يصبح فيها الفاعل صديقاً، ويمسي عدواً.
لقد طالت النكسات [العقائد]، لأن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، فكم من إنسان امْسَى مؤمناً، وأصبح كافراً. وأصبح كافراً، وأمْسَى مؤمناً.
تلك هي سنة الحياة في إقبالها، وإدبارها:-
[مَنْ سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزْمَانُ]
المبادئ كـ[أم الكتاب] ثابتة، لا يطالها التغيير، وما دونها عرضة لكل الاحتمالات:- {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}.
المُعَطِّلون لأنفسهم، والمثبطون لأمتهم بالمثالية المتعالية، لهم ثوابت صنعوها لأنفسهم، وبأنفسهم، تتخلف بهم عن الركب المخب، وتعزلهم عن مسيرة الحياة السوية.
والواقعيون النابهون يسيطرون على قانون التغيير الحتمي، ويملكون القدرة على التكيّف، مع الاحتفاظ بقدر كاف من المثالية، والمعقولية.
الثبات محصور في قوله تعالى:- {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. وما سوى ذلك تحدده مصلحة الأمة، ومطالبها المشروعة، المستصحبة للمقاصد الخيرة.
هناك دين محض، وهناك دنيا محض، والبراعة في دقة التركيب:- {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}، [أنتم أدْرَى بأمور دنياكم].
لا بد للأمة الواعية من استغلال هذه [الدِّراية]، وتلك الفُسَح، لتكون قادرة على التفاعل مع المستجدات. ولا بد للكتبة - والحالة تلك - من التمييز بين ما هو دين صرف، وما هو دنيا صرف، وما هو دون ذلك.
المتعقبون الشامتون ينقبون عن الثغرات في حيوات [الكتبة]، لينفذوا من ثقوبها كالخدر الذي يدب في الأوصال، فيعطل حراكها.
الرسول المبلغ عن ربه، يقول عند تداخل الديني بالدنيوي: [إذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به، وإذا كان من أمر دينكم فإلي] - أو كما قال بأبي هو وأمي - والقاعدة المستنبطة من قضية [تأبير النخل] كثرت فيها الروايات، والصيغ، والتوجيهات، وطنطن حولها الشرّاح، والفقهاء، والأصوليون بما لا مزيد عليه.
المتشددون، والجهلة من الكتّاب يعطلون القدرات، ويُفَوِّتون الفرص، ويهيؤون الأجواء لهيمنة الآخر، فيما يكون [المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف] ولا قوة مع الاحتباس داخل شرنقة الوهم.
السياسة هي المحك، لأنها هي الحاكم بأمره، وتقلباتها تتطلب الرصد الدقيق، والمرونة في التحول السريع، والتقويم السليم للمواقف، والتعرّف على لحظات الاختيار، وغصص الاضطرار.
فكم من كاتب لجوج يثير اهتياجه الأرعن عجاجات تحجب الرؤية، وتزيف الوعي.
وإذ تكون [الكلمة] أولاً على سنن:- [بَلِّغوا عَنِّي ولو آية]. فإن على المتصدرين للقول في الشأن العام، استكناه التقلبات، ومتطلبات المواقف، لكيلا تُصْنع الإرادةُ على عين الجهل المركب. المتحدث حين يلفظ القول، والقلم حين تجري شباته على السطر ينطلق الكلمُ، فإما أن يصعد بشرفه:- {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} أو تهوي به رداءته في مكان سحيق.
تلك هي إشكالية الكثير من المشاهد، وتلك هي سمة الكثير من الكتبة المتسطحين.