د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
يعصف بإيران هذه الأيام تسونامي احتجاجي مرشح للتصاعد ولا يعرف أحد أين سيتوقف وما ستكون آثاره، و المؤكد أن إيران 2018 ستكون مختلفة كليًا عن إيران ما قبلها. تزول الدهشة من تسارع الأحداث واتساع حجمها بمجرد معرفة التطورات السياسة في إيران من بداية الثورة للآن، وهي تطورات كانت نتيجتها المنطقية والموضوعية ما نراه اليوم من أحداث. فالمتابعون للشأن الإيراني يبدون أقل اندهاشًا حيال الأحداث بل إن بعضهم يرى أن هذه الأحداث تأخرت كثيراً. وهذه الاحتجاجات، على عكس ما يعتقد أو ما تروج له إيران وحلفائها، لم يسببها تدهور الأوضاع المعيشية فقط بل تقبع خلفها أسباب موضوعية مركبة.
احتجاجات مشابهة أطاحت بحكم الشاه محمد رضا بهلوي رغم إحاطته بأجهزة أمنية كان يعتقد أنها غير قابلة للاختراق حيث كان للسافاك، جهاز الاستخبارات السري آنذاك، سمعة مخيفة يضرب بها المثل في القمع والتخويف. قتل السافاك لقمع تظاهرات 1978م ما يقارب 15000إيراني من كافة التوجهات السياسية وأتى بنتائج عكسية، فبدلاً من القضاء على الاحتجاجات أشعلها ووسع نطاقها. وعجل وضع إيران الدولي آنذاك، وتظافر جهود المعارضة شيوعية، قومية، ليبرالية، ودينية بسقوط الشاه. وبمساعدة غربية، تم طرح آية الله خميني كبديل تحت ذريعة ضرورة استقرار إيران وأهمية هذا الاستقرار لمنطقة الشرق الأوسط الحيوية. ورغم قبول الشعب الإيراني المبدئي لسلطة الخميني في عام 1979م كزعيم روحي فقط يتسلم السلطة الدينية بينما تقرر الانتخابات النزيهة شكل السلطة السياسية وطبيعة تداولها؛ إلا أنه كان للملالي والخميني حسابات أخرى فانحرفوا بالثورة الإيرانية عن أهدافها والتهموا كافة أطياف المعارضة الأخرى ومن ذلك الوقت تحول الحكم في إيران على حكم بوليسي بحت. وقد تكون بذور ما نشاهده اليوم زرعت من اليوم الأول لاحتكار الخميني السلطة في إيران وتحويلها لحكم ثيوقراطي منافي للعصر جر إيران للماضي ولم يحقق تطلعاتها للمستقبل.
تحالف الخميني في البدء مع التيارات الإسلامية السياسية ذات التوجه الوسطي مثل حزب الحرية بقيادة مهدي بازركان، لكن ذلك لم يدم طويلاً حيث أحسوا أنه اتخذهم غطاءً لتنفيذ سلسلة إعدامات تقدر بثلاثين ألف من التيارات الأخرى ذات التوجه اليساري والشيوعي التي كان لها دور كبير في تأجيج الشارع ضد الشاة. واختلف بازركان مع السلطة الدينية حول سياسة «الثورة الثقافية» التي أعلنها الخميني، ثورة تشبه ثورة ماو الثقافية في الصين وهدفت إلى أسلمة الدولة بالكامل في إيران واتضحت ملامحها بإنشاء الحرس الثوري والباسيج لإحكام القبضة على الدخل الإيراني. ومن الملفت أن بعض رجال الدين المؤثرين مثل آية الله طالقاني عارضوا هذه السياسة. ورفض الخميني مقترح دستور الدولة وتم استبدل بازركان ببني صدر كرئيس للحكومة واستقال الأخير، كما صرح فيما بعد، أنه أحس أنه مجرد من الصلاحيات وأن الخميني يتلاعب به. ثم دخلت حكومة الخميني في حرب مع العراق ساعدتها كثيرًا على تقوية قبضتها على السلطة.
حكومة الملالي أثناء وبعد وفاة الخميني لم تستطع إدارة البلاد اقتصاديًا حيث تم تفريغ البلاد بشكل شبه كامل من طبقة التكينوقراط القادرين على إدارة البلاد بشكل سليم. واستمرت في التخبط الاقتصادي في الداخل وتصدير ثورتها ومعها مشاكلها الداخلية للخارج. وبعد سقوط العراق والاتحاد السوفيتي استغلت إيران هجرة بعض الخبراء لبناء صناعات عسكرية ضخمة بينما كان الشعب يئن تحت ضغط الفقر والأدواء الاجتماعية. التخبط الاقتصادي والعجز عن إدارة البلاد كانا السمة الثابتة للسياسة الإيرانية فيما بعد. والمؤسف أن الغرب وأمريكا لأسباب اقتصادية متفاوتة استمرا في مجاملة النظام الإيراني وتبني سياسات تراوحت بين الانتهازية والغموض، ونظرا لها أحيانًا كالأوزة التي تلد ذهبا، فهي تثير عدم الاستقرار في المنطقة الذي يدفع الدول المجاورة لصرف كثيرًا من مقدراتها الاقتصادية على التسليح. وأتهم كلود شيسون وزير خارجية فرنسا إبان حرب إيران-العراق صراحة الغرب بالعمل على استمرار الحرب لأنه حصل على 500 مليار دولار منها في ثمان سنوات! ولازالت الحرب المذهبية التي تزرعها إيران في المنطقة تدر ذهبًا على شركات تصنيع الأسلحة غربًا وشرقا.
إيران باختصار تعد مثالاً للدولة الغنية الفاشلة اقتصاديًا، وهي لا يمكنها أن تستغني عن إشغال الداخل بصراعات دينية خارجية لا نهاية منطقية لها، فالحروب المتواصلة سبب أساس لاستمرار السلطة في إيران. غير أن قدرة الشعب الإيراني على تحمل هذه السياسات الخرقاء خالفت توقعات النظام، فهو من يدفع ثمن كلفة الخرافات التي يحاول النظام نشرها في محيطة بقوة السلاح. ما يحدث اليوم في إيران ثورة ثقافية مضادة جديدة لا تهدف لتغيير الأوضاع الاقتصادية والسياسية فحسب ولكن لتغيير وجهة توجه الأمة الإيرانية من الماضي للمستقبل.