خدمة العربية ونشر تراثها وإثراء علومها مجالات متعدِّدة، تتكامل في سبيل تعزيز مكانة العربية وتحقيق فاعليتها في المجتمع، وأحد أهم تلك المجالات: تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، وهو مجال حظي مؤخراً باهتمام كبير على مستوى المؤسسات والأفراد، تجاوباً مع الطلب المتزايد على تعلّم العربية، ومواكبة للتطور المستمر في مجال تعليم اللغات.
وقد أولت المملكة العربية السعودية هذا المجال اهتماماً كبيراً على مدى نصف قرن، سجلت خلالها مبادرات رائدة، وخرجت أفواجاً من المتعلمين، وأسست لحركة علمية منهجية من خلال إنتاج علمي وتعليمي، وبرامج متخصصة، وأساتذة وباحثين متخصصين في اللغويات التطبيقية تخرّجوا في أرقى الجامعات العالمية.
وحين نشير إلى هذه الجهود، فنحن لا نفاخر بها غيرنا، بل نوثّق السياق التاريخي للتطور المعرفي في هذا المجال، حفظاً لحقوق الرواد، واستدعاء لجذور المنجزات التي يتردد صداها في أرجاء الوطن العربي اليوم.
كانت البدايات الأولى في شعبة تعليم اللغة العربية لغير العرب التي أنشئت بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1386هـ، والتي أصبحت عام 1422هـ معهدًا لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وتتميز الجامعة الإسلامية بأن النصيب الأوفر من مقاعدها الدراسية مخصص للطلاب الدوليين، وكثير منهم من الناطقين بغير العربية، وقد خرّجت الجامعة آلاف الطلاب على امتداد رقعة العالم شرقاً وغرباً، حتى قيل عنها إنها الجامعة التي لا تغيب عنها الشمس. وفي عام 1433هـ أنشأت الجامعة الإسلامية: الجمعية العلمية السعودية لتعليم اللغة العربية.
أما أول معهد في الجامعات السعودية بوصفه معهداً، فهو معهد اللغويات العربية بجامعة الملك سعود، الذي أُنشئ عام 1395هـ، ليضطلع بتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، وإعداد معلمين متخصصين، وإعداد البحوث والدراسات اللغوية، والمواد التعليمية، ويتميز بوفرة المتخصصين والخبراء في التخصصات الدقيقة في اللغويات التطبيقية، وهذا ما انعكس على وفرة إنتاجه العلمي ولا سيما في الترجمات والدراسات. وقد أطلق المعهد مؤخرًا برنامج «العربية التفاعلية» للناطقين بغير العربية، وهو متوفر في نظامي «أبل» و»أندرويد».
وفي نفس العام 1395هـ، أُنشئ معهد اللغة العربية لغير الناطقين بها بجامعة أم القرى، وكان وقتها مركزاً تابعاً لكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، التابعة لجامعة الملك عبدالعزيز ثم أصبح معهداً مستقلاً عام 1399هـ، وقد قدم المعهد سلسلة تعليمية، تكمن أهميتها في تطويرها الذي بدأ قبل ثلاث سنوات استناداً إلى وثيقة جمعت أهم وأحدث النظيرات والمعايير والخبرات في مجال اللغويات التطبيقية، كما أصدر المعهد عدداً من الكتب العلمية تأليفاً وترجمة.
وفي عام 1401هـ أُنشئ معهد تعليم اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ولعل من أهم ما يميزه: اهتمامه المبكر ببرامج الدراسات العليا، فقد تخرّج فيه عشرات من حملة الماجستير في اللغويات التطبيقية، وتجاوزت الرسائل العلمية التي أجيزت فيه 174 رسالة. وكانت لمعهد جامعة الإمام بصمة مميزة في افتتاح معاهد للغة العربية خارج المملكة، لعل أهمها: معهد العلوم الإسلامية والعربية في إندونيسيا، الذي أنشئ عام 1401 هـ، والمعهد العربي الإسلامي في طوكيو، الذي أنشئ عام 1402هـ.
وقد انضم إلى هذه المنظومة المتكاملة معهد اللغة العربية للناطقين بغيرها جامعة الملك عبد العزيز، الذي أنشئ عام 1431هـ، ومعهد تعليم اللغة العربية للناطقات بغيرها بجامعة الأميرة نورة، الذي أنشى عام 1433هـ، وقسم اللغة العربية لغير الناطقين بها بالجامعة السعودية الإلكترونية، الذي أنشئ عام 1435هـ.
وأطلق كل واحد منها مبادرات علمية وتعليمية تبدأ من حيث انتهى الآخرون، في مجال تطوير الخطط الدراسية، وإعداد الحقائب التدريبية، واستثمار التقنيات الحديثة في التعليم.
وقد كان لهذه الجهود آثار مهمة في مجال تعليم اللغة العربية، كإصدار الكتب والسلاسل التعليمية، ونشر وترجمة الدراسات العلمية، وتدريب الآلاف من معلمي اللغة العربية، وافتتاح أقسام وكراسي علمية في جامعات عالمية.
واستكمالاً لتلك العطاءات؛ اتجه اهتمام المؤسسات المعنية بتعليم اللغة العربية مؤخراً إلى إعداد اختبارات مقننة لقياس الكفاية اللغوية لمتعلمي اللغة العربية، ولعل أهم ما يذكر في هذا المجال الاختبار الذي أعده المركز الوطني للقياس والتقويم (قياس)، والاختبار الذي أعدته الجامعة السعودية الإلكترونية.
وقد تُوِّج هذه العطاء المتصل، بإنشاء مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، عام 1431هـ، فقد تميز على مدى السنوات الماضية بدوره التنسيقي بين المؤسسات التعليمية، وجهوده التوثيقية لمنجزات هذه المؤسسات، وأصدر مجموعة من الدراسات في مجال خدمة اللغة العربية، وأقام فعاليات تعليمية وتدريبية مكثفة داخل السعودية وخارجها، واستضاف وفوداً وخبراء ولقاءات تشاورية، لاستثمار جهود المتخصصين على نطاق واسع، واستطاع أن يخطو خطوات كبيرة نحو الرؤية التي خطها ليكون المرجعية الدولية لخدمة اللغة العربية.
غيض من فيض، وإشارات بقدر ما يتسع المقام، ما كان لها أن تلم بتلك الجهود، أو تحيط بذلك العطاء الذي تفيأت ظلاله أكثر من أربعة عقود، تخرّج فيها آلاف الطلاب، وأنجزت مئات الدراسات، وأطلقت عشرات المشاريع والبرامج والمبادرات في مجال تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها.
** **
- عميد معهد اللغة العربية بجامعة الملك عبدالعزيز