خالد بن حمد المالك
من الطبيعي أن تتأرجح احتجاجات الشعوب الإيرانية بين المد والجذر، فتهدأ في فترات لتشتد وتعود إلى زخمها في فترات أخرى، فالثورة أمام القبضة الحديدية الصارمة لنظام الملالي يحتاج التعامل معها إلى شيء من المناورة، للإفلات من نيران القوات الحكومية المعادية للشعوب، لكن الواضح أن الاحتجاجات هزت أركان النظام، وقلّلت من هيبته، وأثبتت أن إسقاطه ليس مستحيلاً، وأن استمرار المظاهرات والاحتجاجات والعصيان، ومقاومة نيران النظام ولو بأصوات الحناجر المدوية، هي الوسيلة الوحيدة لاستسلامه ونزوله لإرادة الشعوب.
* *
يجب عدم التسرُّع في الحكم على ما ستؤول إليه هذه الاحتجاجات الواسعة ضد نظام ولاية الفقيه من نجاح أو فشل، فالمعركة مستمرة، وطالما أن شرارتها الأولى قد انطلقت فقد لا تتوقف، وسيضطر الجيش والأمن والميلشيات إلى الاستسلام والقبول بالهزيمة، والانضمام إلى صفوف المواطنين ضد هذا النظام الفاسد، كما فعلت مع شاه إيران بانحيازها إلى المتظاهرين ضد الإمبراطور آنذاك، متخلية هذه القوات عن سيدها بعد أن رأت تصميم المواطنين على إسقاط النظام الإمبراطوري، ومعه الجيش الذي بناه الإمبراطور، وظن أنه لن يتخلّى عنه مهما كانت الأسباب والتحديات.
* *
سوف يستخدم النظام أساليب ودية، ووعوداً كاذبة، لاسترضاء المتظاهرين، مع التعامل بقسوة مع كل من لا يتجاوب مع دعوات النظام للتهدئة، أو يرفض أن يغادر ميادين التظاهر، غير أن استخدام القوة أو اللين أو هما معاً ربما يكون قد تجاوزهما الزمن، وأصبح التعامل على هذا النحو مع مواطنين أصيبوا بالإحباط، ويعيشون منذ عقود مضت في حالة احتقان من الممارسات السياسية لنظام الفقيه (أو السفيه) وخاصة في إهدار المال العام على مؤامرات ضد دول الجوار، وعلى تدخلات في شؤونها الداخلية، وعلى تسييرها للميلشيات الإيرانية في حروب عبثية في سوريا والعراق واليمن وغيرها، مما كلَّفها من المال والسلاح وخسارة الرجال الشيء الكثير.
* *
هناك من يعتقد أن هذه المظاهرات التي شملت كل المدن الإيرانية، وامتدت إلى حيث مقار أركان النظام، سوف يكون مصيرها التوقف، وأنها سوف تُحسم بالقوة كما حدث ذلك مع احتجاجات ومظاهرات سابقة، فيما أن من يرشِّح استمرارها، وتواصل زخمها ينطلق من أن الوضع في إيران وصل إلى الحد الذي لم يعد المواطن الإيراني قادراً على التعايش مع أوضاع مأساوية في حياته من حيث الحرية وحقوق الإنسان، وامتداداً إلى الوضع الاقتصادي المتدني في البلاد، بينما تُسخَّر الأموال الإيرانية في دعم الحركات والتنظيمات المعارضة في دول أخرى ضد أنظمتها وحكوماتها، وكل هذا على حساب قوت الشعوب الإيرانية.
* *
ومع أن النظام الإيراني بعدوانيته لم يحقق أي نتائج في محاولاته التوسعية، بينما خسر الكثير من المال والسلاح والرجال في تمويل ودعم هذه الأدوار المشبوهة التي يقوم بها، وخسر العلاقات المتوازنة مع جيرانه، كما انقطعت علاقته مع كثير من دول العالم، وضيَّق على البلاد اقتصادياً من خلال الحصار الدولي، بما جعل المواطن يحس أن النظام يتآمر عليه، وأن أجندته لا تسعى إلى تطوير البلاد وخدمة الشعوب، وإنما كل همه أن يمارس تسلطه وتدخله وعدوانه على من كان ينبغي عليه أن يتعاون معها من الدول والأنظمة، وبخاصة تلك التي يفترض أن يجمع إيرن بها حسن الجوار.
* *
لا تستعجلوا النتائج، فمنذ سقوط نظام الشاه، وانتهاء الإمبراطورية، وقيام الجمهورية، وتربُّع الخميني على الحكم في البلاد، وذلك منذ أربعين عاماً تقريباً، وحتى من جاء يحكم إيران من بعده، فلم نشاهد مظاهرات بهذا الحجم من حيث العدد، والانتشار، والإفصاح عن المطالب، والموقف من المرشد العام ورئيس الجمهورية، بهذه الحدة والصراحة، والتعامل مع الحكومة على أنها حكومة فاشلة، لا يهمها خدمة إيران، أو الاهتمام بالشعوب الإيرانية.
* *
هذا يؤكّد أننا أمام مرحلة جديدة، حتى وإن هدأت فيها الاحتجاجات، فهي مرشحة للصعود من جديد، بما لا معنى ولا قيمة لرأي من يعتقد أن هذه المظاهرات إذا ما انطفأ وهجها فلن تعود ثانية، وكأن الشعوب الإيرانية على استعداد للقبول بالأمر الواقع، وهي التي خرجت إلى شوارع المدن تعلن العصيان بشكل عفوي، وبدون قيادة أو تنظيم، يدفعها الرفض لممارسات النظام، والإصرار على أن القبول بالأمر الواقع لن يكون كذلك بعد اليوم، وهو ما يمكن تفسيره على أن الثورة مستمرة ومتواصلة، وقد يكون الهدوء بتكتيك وذكاء من المتظاهرين للحيلولة دون ضرب النظام للمظاهرات في مقتل.