عبدالعزيز السماري
تمرُّ في حياتنا القصيرة عدد لا حصر له من المشاهد، يكون آخرها مسك الختام، أو آخر المشاهد في حياة لم تختَرْ أن تكون فيها، ولكن جاءت بك الأقدار لتكون مشاركًا وفعالاً لفترة زمنية قصيرة جدًّا عند مقارنتها بالزمن الأكبر في حياة الكون العظيم.
خلال هذه الإطلالة تختلف فلسفة الحياة من شخص إلى آخر، وتساهم الظروف في خلق تلك النظرة من خلال توالي الأيام السريع، وقد لا تخرج من دورة صراع مدهش بين الحكمة والغريزة، وتفوق الحكمة على الغريزة يحتاج إلى ظروف دنيوية اجتماعية وسياسية واقتصادية مستقرة، وعادة تكون نتيجتها تحقيق الإنجازات..
بينما تكون الغريزة مسيطرة في ظروف عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وقد تفسر هذه المفارقة البعدَين اللذين يحددان المسافة بين الغرب والشرق في هذا العصر؛ فالحكمة لم تكن متوارثة في عالم الغرب، ولكن صنعتها ظروف الاستقرار؛ ولهذا تكاد تكون المنجزات العلمية وغيرها غربية خالصة في هذا العصر.
بينما أوجدت سيطرة الغرائز في الشرق حالة الصراع والفساد؛ فالمرء منذ الصغر وهو في حالة ركض وقلق من أجل إشباع غريزة البقاء في الطبيعة القاسية، ورسم الخطط البديلة للهروب في ساعة احتدام الصراع؛ ولهذا تكاد تكون المنجزات شبه معدومة في الشرق العربي..
لا تستثني تلك الصورة المشحونة بالصراع والغرائز أحدًا في الشرق؛ فالجميع بمختلف طبقاتهم وفئاتهم وثرواتهم وفقرهم يجرون بلا توقف في فلك الصراع الدائر حول البقاء والبحث عن فرص النجاة في اليوم المنتظر؛ ولهذا تجدهم يقدمون التبريرات غير الصحيحة لأفعالهم غير السوية في بعض الأحيان.
كان أشهرها أن الله - عز وجل - أعطى الغرب جنتهم في دنياهم، بينما ننتظر جنة الخلد في يوم الحساب، وكأن الصراع والاقتتال وعدم الاستقرار حتم في حياة العرب والمسلمين؛ ولهذا السبب لا توجد ثقة لبعضهم في أوطانهم؛ فالوطن عندهم حالة غير دائمة، وعادة يذوب في أدراج الصراع المحتدم؛ ولهذا أيضًا يلجأ أثرياؤهم إلى توزيع ثرواتهم في مختلف بلاد العالم؛ والسبب سيطرة غريزة الخوف وعدم الأمن على العقول.
بينما لو تأملنا فصول حياتنا القصيرة لأيقنا أن ما نفعله هو أحد وجوه الجحيم المنتظر بعينه؛ فقد توهمنا أنها حياة خالدة للأبد، بينما هي في منتهي القصور، ولا يبقى منها إلا الذكر الطيب كما وصفها الأولون، وهو تعريف آخر للإنجاز أيًّا كان، سواء كان علميًّا أو اجتماعيًّا أو سياسيًّا..
ولهذا تنظر بعض الأمم لزعمائها بعين التقدير والفضل الكبير، وهل سيكون بإمكان الهند أن تصل إلى حالة الاستقرار بدون قيادة غاندي لها في أصعب الظروف، وإخراجه لوطنه من مخاطر الصراع الإثني والطبقي والديني؟ وهل سينسى الشعب الإفريقي الجنوبي قيادة نيلسون مانديلا للشعب المقهور للتحرر من استبداد الأقلية البيضاء إلى حيث التسامح والاستقرار.
كما لا يمكن أن ينسى الأمريكيون قيادة إبراهام لينكولن الولايات المتحدة من الحرب الأهلية وتوحيد الحقوق أمام القانون في أحلك ظروف عدم الاستقرار، وكان له الأثر في وصول الولايات المتحدة لتكون المحط الأشهر للمهاجرين وأصحاب الأحلام العظيمة.
ولهذا أيضًا ترفع الأمم أسماء أصحاب الإنجازات العلمية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية عاليًا في سماء الوطن؛ فهم بمنزلة النجوم في السماء، التي يهتدي بها الناس لمعرفة طريقهم في الظلام، بينما ينسى التاريخ أولئك الذين أتعبتهم مخاوفهم وقلقهم وغرائزهم في الحياة القصيرة جدًّا، الذين كانوا أحد أهم أسباب عدم الاستقرار في البلاد المشحونة بأدوات الصراع..
في نهاية الأمر.. لو أردت اختزال فلسفة الصراع في زاوية محددة لكانت في خانة الصراع السلطوي، الذي شتت الماضي، ولا يزال يشتت أذهان العقلاء العرب في الوقت الحاضر، ثم يحولهم إلى أدوات غرائزية في مشاهد الصراع المرير.. وإلى حالة انتظار لأقرب الفرص للهروب بأموالهم وثرواتهم إلى جنة الغرب الدنيوية..
وقد تكرر هذا المشهد في تاريخنا وحاضرنا العربي مئات المرات، ولا يزال تعود المشاهد نفسها كلما بدأت دورة سياسية في حياة أهل الشرق. فهل من رجاء في أن يخرج الزعيم المنتظر ليوقف نزيف المشاعر وسيطرة الغرائز ودورات الصراع في بلاد الشرق العربي؟