د.عبد الرحمن الحبيب
إيران دولة دينية شمولية يحكمها الملالي عبر مؤسسات إيديولوجية وأمنية على رأسها الولي الفقيه؛ تعاني من أزمات اقتصادية متراكمة ومستوى معيشة متدن. ومن أجل تخفيف الاحتقان المستمر في الداخل يقوم النظام بتصدير الثورة وتأجيج المشاعر المحلية ضد العدو الخارشجي المصطنع.
فهذه الأزمات المتراكمة ومستوى المعيشة المتدني تلقي فيها إيران اللوم على العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على إيران. لكن منذ سنتين مع توقيع الاتفاق النووي تم تخفيض هذه العقوبات والإفراج عن ملايين الدولارات المجمدة، واستعادة إيرادات النفط بعد سنوات من الحظر، فشهدت إيران وضعاً اقتصادياً لم ينعكس على الوضع المعيشي للإيرانيين، بل على العكس، ساء الوضع المعيشي وزادت البطالة (معهد واشنطن). وحسب تقرير «بي بي سي» الفارسية، فالحالة المعيشية للمواطن الإيراني من فئة الدخل المتوسط، باتت الآن أسوأ بنسبة 15 %، مما كانت عليه قبل 10 سنوات. وحتى التقارير الرسمية الإيرانية أوضحت أن نسبة البطالة زادت من 12 % عام 2015 إلى 12.5 % عام 2017 .
وكانت الحكومة الإيرانية قد وعدت شعبها بأن تخفيف العقوبات سيجعل حياتهم أفضل، فأين ذهبت هذه الأموال؟ تشير كثير من التقارير المحايدة إلى أنها في الداخل تذهب للنخبة وفي الخارج تذهب لوكلاء إيران في المنطقة. في الداخل الحكاية معقدة تبدأ من أن الاقتصاد يدار بطريقة سيئة يتحكم به مؤسسات نافذة في مقدمتها «الحرس الثوري» ومصارف ائتمانية أفلست وذهبت أموال ملايين الناس أدراج الرياح. لكن موضوعنا عن العامل الخارجي.. تصدير الثورة.
يبدو أن تصدير الثورة وللمرة الأولى يرتد على النظام الإيراني في الداخل، ويأتي بنتائج عكسية للمراد منه. بداية عمَّا يشاع على نطاق واسع في إيران من أن الشرارة التي أججت الاحتجاجات كانت عبر تداول مقطع فيديو تم ترجمته مؤخراً للفارسية، كانت قناة المنار لحزب الله بثته لرفع المعنويات منتصف عام 2016 لنصر الله زعيم الحزب وهو يتحدث عن الدعم اللا محدود الذي يتلقاه الحزب من إيران، قائلاً: «موازنة حزب الله ومعاشاته ومصاريفه وسلاحه وصواريخه وأكله وشربه من الجمهورية الإسلامية في إيران..» وختم كلامه: «طالما بإيران في فلوس فنحن عنا فلوس» قالها ضاحكاً بطريقة قد تستفز الإيرانيين.. مما أضطره الأسبوع الماضي لإجراء مقابلة «ترقيعية» مع قناة الميادين ذكر في ختامها أن راتبه الذي يتقاضاه من الحزب هو حوالي 1300 دولار، وموضحاً أن المظاهرات في إيران اندلعت لأسباب اقتصادية تتعلَّق بإفلاس بعض البنوك والشركات.
حسب مجلة «ذا ويك» البريطانية فأكثر من مليار دولار تقدمها إيران لحزب الله، وأكثر من أربعة مليارات دولار للنظام السوري في الفترة من 2013 و2015، وأجور شهرية لنحو 50 ألف مقاتل من المليشيات فضلاً عن تكاليف إمدادات السلاح والمستشارين العسكريين.. دون حساب ما تقدّمه إيران للميليشيات الشيعية بالعراق أو ميليشيات الحوثيين باليمن، والتي يرجح مراقبون أنها تتجاوز ملياري دولار سنويًا..
إذن، ثمة كلفة داخلية للتوسع الإيراني في الخارج، رأيناها في الاحتجاجات في شوارع إيران. فحسب كافة وكالات الأنباء فمن أوائل الهتافات التي صدح بها المحتجون إعلان الرفض لتدخلات إيران بالمنطقة العربية، ولعل أشهرها «لا غزة ولا لبنان أفدي روحي لإيران»، وشعار «انسحبوا من سوريا وفكروا بنا». ورغم أن الإيرانيين الذين تظاهروا في أنحاء البلاد كانوا ضد الفساد، إلا أن الشعارات الأولى توضح بجلاء أنهم ضد تكاليف المغامرات الإيرانية في الخارج. كل ذلك تحول لانتقاد القمع، إذ هتف بعض المتظاهرين بشعارات ضدّ خامنئي ومنها «الموت للديكتاتور».
هذه الاحتجاجات لا تعني أن النظام الإيراني على شفاء الانهيار، بل تعني أن الصورة البراقة المزعومة للمرشد الأعلى ورسوخ نظامه قد تم ضربها في الداخل، وأن الحاجز النفسي ضد «قدسيته» قد سقط.. فمن النادر أن تحرق أو تتداس بالأقدام صور خامنئي والخميني في الشوارع الإيرانية..
المسألة لا تقتصر على المطالبة بالإصلاح، ولا على التشكيك بأداء الحكومة كما حدث باحتجاجات عام 2009 بعد الانتخابات، فهي آنذاك شككت في نتائج الانتخابات ومصداقية الحكومة وليس الدولة، مما دعا خامنئي للسماح بفوز روحاني «الإصلاحي» في انتخابات 2013 لإكمال الاتفاق النووي وتسهيل الانفتاح مع الخارج وتخفيف القمع الداخلي والانكماش الاقتصادي.
في الاحتجاجات الأخيرة، اضطر النظام الإيراني في اليوم السادس لإنزال البعبع «الحرس الثوري» لحسم المسألة قمعياً، فهذا الجهاز معروف بالشراسة إيديولوجياً وأمنياً، فضلاً عن أنه أقوى ذراع اقتصادي في البلاد. لكن أساس الأزمة ما زال قائماً، فإيران تتمدد أكبر من قدراتها بينما اقتصادها يعاني من أزمات، ووضعها الاجتماعي والسياسي يعانيان من قمع وعزلة، فكثير من وسائل التواصل الاجتماعي تحجب بشكل مؤقت أو دائم.. والقنوات خارج إيران المتحدثة بالفارسية محجوبة مثل قناة بي بي سي الفارسية..
هذه العزلة الذاتية تترافق معها عزلة دولية فضلاً عن العقوبات الاقتصادية التي ما إن بدأت تخف حتى أعادتها الاحتجاجات الأخيرة للواجهة.. فهل يرتد تصدير الثورة على النظام الإيراني أم يقوم النظام بتعديل خططه للبقاء..؟! أياً كانت الإجابة، فالنظام الإيراني قبل هذه الاحتجاجات سيكون غيره بعدها..