د.عبدالرحيم محمود جاموس
أواخر سبعينيات القرن الماضي وقبل ثمانية وثلاثين عاماً من الآن، انتفض الشعب الإيراني على (حكم شاه نشاه رضا بهلوي) لم يكن المحرك حينها الجوع حيث كانت تنعم إيران بدخل عالٍ من تصدير البترول وغيره من المنتوجات الإيرانية الفاخرة، وكانت تعيش تحولات اجتماعية كبرى كان قد حققها الإصلاح الزراعي في (عهد مصدق) الذي حول طبقة الإقطاع الزراعي إلى رأسمالية تجارية صناعية من خلال التعويضات التي دفعت لكبار الملاكين للأراضي الزراعية والتي تم تمليكها للفلاحين، ولكن هذه الإصلاحات والتحولات الاجتماعية لم تَحُلْ دون وقوع الثورة والانتفاضة على حكم الشاه المطلق، الذي كان يقمع الحريات الأساسية ويطلق يد الأجهزة الأمنية للبطش بالمعارضة على اختلافها، الليبرالية واليسارية والدينية، وقد برز حينها (اسم السافاك) كرمز لقوة النظام وبطشه، حيث سقط العديد من المعارضين في غرف التعذيب، فكان مبدأ حقوق الإنسان وانتهاكه الصارخ من قبل حكم الشاه مفجر ذلك الربيع الذي أطاح به في ثورة شعبية شملت مختلف المدن الإيرانية حينها، لقد كان الشاه يستمد قوته من الدعم الخارجي الذي كانت توفره له دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة، كخط دفاعي أولي في وجه الاتحاد السوفيتي، وكشرطي في منطقة الخليج، لكن توقيعه لاتفاق آذار 1975م في الجزائر مع العراق والذي أُنهِيَ بموجبه الخلاف الإيراني العراقي وتمت بموجبه تسوية الحدود في منطقة شط العرب، وبناء علاقة جوار طبيعية مع العراق تحديداً ومع معظم دول الخليج العربي، باستثناء أزمة الجزر العربية الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى) التي بقيت ولازالت محل خلاف إماراتي إيراني، وعربي إيراني، مَثَلَّ هذا الاتفاق تصادماً مع الإستراتيجية الأمريكية التي كانت تسعى للإبقاء على هذا الخلاف والنزاع الإيراني العراقي لاستخدامه وقت الحاجة، إضافة إلى إنهاء الثورة الكردية في شمال العراق التي كانت مدعومة من النظام الإيراني والولايات المتحدة والكيان الصهيوني، ذلك من العوامل التي أدت إلى رفع الغطاء عن نظام الشاه، وشيطنته في الإعلام الأمريكي والغربي عموماً وتبني مطالب المعارضة الإيرانية ودعمها بشكل مطلق، تحت شعار احترام مبدأ حقوق الإنسان، وأن الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة سوف تُقَيِمُ علاقاتها مع الدول على (أساس مدى التزامها بمبدأ حقوق الإنسان) وكان الرئيس جيمي كارتر رئيس الولايات المتحدة حينها قد أعلن أنذا الالتزام للولايات المتحدة الذي تُقَيِم علاقاتها مع الدول على أساسه، ذلك ما قصم ظهر نظام شاه إيران، وأدى إلى تصاعد الثورة الشعبية عليه، حيث سقطت أجهزة القمع والأمن الإيرانية وفي مقدمتها (جهاز السافاك الشهير) ووقف الجيش الإيراني حينها على الحياد، بل عملياً إنحاز إلى الانتفاضة الشعبية ورفض مواجهة المنتفضين، كما فعل الجيش المصري تماماً في ثورة 25 يناير 2011م على حكم الرئيس مبارك، فلم يبق أمام شاه إيران سوى الاعتزال ومغادرة طهران ليبحث له عن منفى خارج الوطن، لم يستطع الحصول على تأشيرة لدخول الولايات المتحدة حينها، وقد عاد من طريقه للولايات المتحدة بعد توقف في الرباط لمدة ثلاثة أيام إلى القاهرة بناءً على دعوة من الرئيس المصري أنور السادات (تحت شعار ارحموا عزيز قوم ذل) لكن حلم الشعب الإيراني في توفير الاحترام لمبدأ حقوق الإنسان، والحرية والمساواة وبناء نظام وطني ديمقراطي يتكفل بهذه المطالب الأساسية، قد تبخر، حيث تمكن تيار الإسلام السياسي الطائفي الشيعي الجعفري والقومي الفارسي، أن يحتكر السلطة والنظام ويفرض نظامه وتصوره للحياة القائم على أساس (مبدأ ولاية الفقيه) لقد تحول الاستبداد من استبداد الإمبراطور المدني، إلى استبداد (الولي الفقيه) الديني وهو أكثر خطورة من الأول، وأشد فتكاً بمعارضيه، حيث يحيل كل ذلك القمع والاستفراد إلى الله وليس إلى ذاته ونزواته في تصفية معارضيه، هذا وقد مرَّ على حكم الولي الفقيه منذ عام 1979م إلى اليوم ثمانية وثلاثين عاماً، انقض خلالها على حريات الشعب الإيراني وقضى على كل أشكال الرفاه والنمو الاقتصادي، وحول إيران إلى سجن كبير وضرب نسيج المجتمع على أسس طائفية وعرقية وفتك بالمعارضين من ليبراليين ويساريين وقوميين على اختلافهم ومن أدباء وكتّاب وشعراء حيث سجلت إيران أعلى نسبة إعدامات سنوياً، بين دول العالم، ونقضت إتفاق آذار 1975م مع العراق ودخلت في حرب معه دامت عشر سنوات، وأججت المشاعر الطائفية، وتبنت شعارات ثورية ظاهرياً ضد الغرب وأمريكا والكيان الصهيوني، وحقيقتها ضد دول الجوار العربي، تحت شعارات وهمية إنها ثورة المسلمين وثورة المستضعفين، لتبرر تدخلاتها في شئون الجوار، وبنت قوة عسكرية وضعتها على عتبة نادي الدول النووية، وهذا كله بالتأكيد على حساب رفاه المواطن الإيراني، لم يدرك نظام ولاية الفقيه أن الجوع يفعل أكثر وانتهاك الحريات ومبدأ حقوق الإنسان قادعلى أن يسقط كافة الأوهام الإمبراطورية التي عششت في عقل الولي الفقيه وأتباعه، وأن حق المخلوق مقدم على حق الخالق، هكذا يتكرر ربيع إيران وينتفض الشعب الإيراني من أجل لقمة العيش، ومن أجل حقه في الحياة والرفاه، ومن أجل حقه في احترام إنسانيته، ورفضه للاستبداد سواء كان مدنياً أم دينياً، وأن الشعارات لا تملأ بطون الجائعين، ولا ترد كرامة منتهكة، ولا تصنع أمناً ولا تصنع حرية أو عدلاً أو مساواة.
إن التمدد خارج الحدود الوطنية والتدخل في شئون الآخرين، لا تعني المواطن العادي والطبيعي الذي يحلم بالحياة الطبيعية بعيداً عن الأوهام، فما يهم المواطن الإيراني هو أن يرى دولته في سلام داخلي يحقق المساواة بين المواطنين ويحقق لهم الاحترام والرفاه، كما يهمه أن تكون دولته في سلام مع العالم وخصوصاً مع دول الجوار التي تحكمها الجغرافيا والتاريخ المشترك، وهذا لا يتأتى إلا على أساس إعادة السلطة للشعب لاختيار حكامه واختيار سياساته التي تحقق له الرفاه والكرامة وحسن الجوار مع الآخرين، هل يتواصل هذا الحراك الشعبي إلى أن يستجيب رأس النظام (الولي الفقيه) لمطالبه العادلة؟.. إن طبيعة تفكير المستبد لا تسمح له بالوصول للحلول الوسط، لذا سوف تشهد إيران مزيداً من القمع والقتل والفتك بالمنتفضين والمعارضين، إلى أن يحسم الوضع إما إعادة القبضة الحديدة للولي الفقيه، أو سقوطه وإعادة السلطة للشعب.
على العالم الذي ساند الشعوب الإيرانية التي انتفضت على حكم الشاه لعدم احترامه لحقوق الإنسان أن تقف اليوم وبموضوعية إلى جانب الشعب الإيراني المنتفض على استبداد ولاية الفقيه وسياساته القمعية، وأن ينتصر لاحترام حقوق الإنسان الإيراني الذي عانى ما عانى من قمع وإعدامات وجوع بسبب تلك السياسات المتهورة التي لم يقتصر أذاها على الشعوب الإيرانية، بل امتد إلى دول الجوار من خلال سياسات التدخل في شئونها الداخلية، تحت شعارات بات زيفها وكذبها واضحاً للعيان.