تأليف د. نزار عبيد مدني.. عرض د. محمد بن أحمد الصالح:
هذه نظرات حول كتاب متميز في عنوانه، متألق في أسلوبه، صدر عن مفكر استفاد من الماضي، وعاش الحاضر، واستشرف المستقبل، هذا الكتاب (المستقبل) للأستاذ الدكتور نزار عبيد مدني وزير الدولة للشؤون الخارجية، وعنوانه (المستقبل: تأملات استشرافية في التطورات والتغيرات العلمية والتقنية والأوضاع السياسية المتوقعة في القرن الواحد والعشرين) في أربعين وأربعمائة صفحة من القطع الكبير طبعة أولى 2017م متضمنًا مقدمة وأربعة فصول وخاتمة، حوى كل منها مجموعة من المباحث المستقبلية المتوقعة في القرن الحادي والعشرين.
لم تكن قراءتي لكتاب المستقبل مجرد اطلاع فضولي على ما سطره يراع شخص مرموق متخصص وذي خبرة عميقة في العمل السياسي وإلمام بالشؤون الدولية، بل كانت بمثابة رحلة بين دفتي كتاب، جمع بين متعة الصياغة اللغوية بأسلوب جميل سلس -مسهب أحياناً- خال من التعقيد اللفظي والتكلف، وبين متعة السياحة في أفق المستقبل الواسع، واستشراف ملامحه اللامعة أمام ناظري القارئ، لكن الكتاب -فوق ذلك- تميز بالطرح العلمي المنهجي المنظم، مما يحفز القارئ على متابعة هذه المرحلة الذهنية بدون توقف.
فقد أدرك الأستاذ الدكتور نزار أن مفهوم المستقبليات قد يكون غامضًا عند الكثيرين ممن يتوجه إليهم الكتاب، وأنه لا يؤخذ بجدية واقتناع، لذلك توسع في استعراض المدارس المختلفة التي تناولت موضوع المستقبل، وشرح مفهوم المستقبليات ليؤكد أن التوقعات المستقبلية التي تتمخض عنها هذه الدراسات إنما هي مبنية على قواعد علمية، ومعلومات نوعية، وإحصائية، وتتبع لمسيرة الطواهر والوقائع الماضية ونتائجها الحاضرة جعلت بالإمكان استخلاص ورسم التوقعات المستقبلية، وأنها لذلك بعيدة كل البعد عن أن تكون تنجيمًا أو رجمًا بالغيب، وكما ورد في أحد الأقوال المنتقاة عن المستقبل التي أوردها المؤلف في ذيل الكتاب فإنك (إذا أردت أن تعرف ماضيك، انظر في أوضاعك الحاضرة وإذا أردت أن تعرف مستقبلك، انظر في أفعالك الحاضرة).
هذه نظرات حول كتاب متميز في عنوانه، متألق في أسلوبه، صدر عن مفكر استفاد من الماضي، وعاش الحاضر، واستشرف المستقبل، هذا الكتاب (المستقبل) للأستاذ الدكتور نزار عبيد مدني وزير الدولة للشؤون الخارجية، وعنوانه (المستقبل: تأملات استشرافية في التطورات والتغيرات العلمية والتقنية والأوضاع السياسية المتوقعة في القرن الواحد والعشرين) في أربعين وأربعمائة صفحة من القطع الكبير طبعة أولى 2017م متضمنًا مقدمة وأربعة فصول وخاتمة، حوى كل منها مجموعة من المباحث المستقبلية المتوقعة في القرن الحادي والعشرين.
لم تكن قراءتي لكتاب المستقبل مجرد اطلاع فضولي على ما سطره يراع شخص مرموق متخصص وذي خبرة عميقة في العمل السياسي وإلمام بالشؤون الدولية، بل كانت بمثابة رحلة بين دفتي كتاب، جمع بين متعة الصياغة اللغوية بأسلوب جميل سلس -مسهب أحياناً- خال من التعقيد اللفظي والتكلف، وبين متعة السياحة في أفق المستقبل الواسع، واستشراف ملامحه اللامعة أمام ناظري القارئ، لكن الكتاب -فوق ذلك- تميز بالطرح العلمي المنهجي المنظم، مما يحفز القارئ على متابعة هذه المرحلة الذهنية بدون توقف.
فقد أدرك الأستاذ الدكتور نزار أن مفهوم المستقبليات قد يكون غامضًا عند الكثيرين ممن يتوجه إليهم الكتاب، وأنه لا يؤخذ بجدية واقتناع، لذلك توسع في استعراض المدارس المختلفة التي تناولت موضوع المستقبل، وشرح مفهوم المستقبليات ليؤكد أن التوقعات المستقبلية التي تتمخض عنها هذه الدراسات إنما هي مبنية على قواعد علمية، ومعلومات نوعية، وإحصائية، وتتبع لمسيرة الطواهر والوقائع الماضية ونتائجها الحاضرة جعلت بالإمكان استخلاص ورسم التوقعات المستقبلية، وأنها لذلك بعيدة كل البعد عن أن تكون تنجيمًا أو رجمًا بالغيب، وكما ورد في أحد الأقوال المنتقاة عن المستقبل التي أوردها المؤلف في ذيل الكتاب فإنك (إذا أردت أن تعرف ماضيك، انظر في أوضاعك الحاضرة وإذا أردت أن تعرف مستقبلك، انظر في أفعالك الحاضرة).
يقول المؤلف في المقدمة: منذ سنوات عدة خلت بدأت الدراسات الخاصة بالمستقبل تستهويني، وتنال قسطًا وافراً من اهتمامي، إلى الحد الذي طفقت فيه أبحث وأنقب عن المؤلفات والمراجع العلمية الخاصة بهذا الموضوع، وقد تمكنت من العثور على حصيلة لا بأس بها من تلك المؤلفات والمراجع، التي أصبحت تحت قسم أثير من مكتبتي المنزلية، وفي غضون ذلك تبينت لي -من خلال متابعتي لهذا الموضوع- حقيقتان لافتتان، الأولى: هي أن الدراسات الخاصة بالمستقبل تطورت في الغرب إلى الحد الذي غدت فيه علما له أصوله وقواعده، وله مناهجه وتطبيقاته، وأصبح له خبراؤه ومراكزه التي تكاثرت وانتشرت في الدول الغربية بشكل لافت للأنظار!
أما الحقيقة الثانية: فقال عنها: إن هذه (العدوى) العلمية والأكاديمية لم تنتقل إلى الدول العربية بالشكل المطلوب والمرغوب؛ حيث من الملاحظ أن هناك شبه ندرة في المراكز العربية الخاصة بدراسات المستقبل، وأن هناك قلة في الدراسات والمؤلفات التي تعنى بهذا الموضوع، والتي أصبحت المكتبة العربية في أمس الحاجة إليها، إضافة إلى ذلك فإني لم أقع حتى الآن على مؤلف سعودي واحد، ولم أظفر بدراسة سعودية واحدة تبحث في هذا الموضوع! الأمر الذي دفعني وشجعني على الإقدام على محاولة سد الفراغ الذي تعانيه المكتبة السعودية في هذا المجال، والإسهام بجهد المقل في توجيه الانتباه، ولفت الأنظار إلى أهمية مثل هذه الدراسات، وقد تضمن الكتاب أربعة فصول رئيسة، وانبثق منها عدة قضايا، تناول الفصل الأول (تطور مفهوم الدراسات المستقبلية)، وتضمن التأصيل التاريخي، تبسيط مفهوم استشراف المستقبل، تصنيف المهتمين بالمستقبل، توقعات لم تتحقق وأسباب عدم تحققها، الأساليب والتقنيات في الدراسات المستقبلية، ماهية المتغيرات المستقبلية.
وجاء في الفصل الثاني الحديث عن (التحولات والتغيرات المستقبلية في المجالات العلمية والتقنية)، وتضمن: مكونات التقدم العلمي ومظاهره، الحاسوب، تقنية النانو، الإنسان الآلي، التقنية الحيوية، التوقعات المستقبلية لمظاهر ومكونات التقدم التقني، وجاء فيه: إن قدرنا أننا وجدنا في مرحلة حرجة ومنعطف مهم من التاريخ البشري، مرحلة مليئة بالإثارة ومفعمة بالحيوية، وحبلى بالمفاجآت، ومتخمة بالتطورات العلمية والتقنية وتراكم المعارف والعلوم بشكل لم يسبق له مثيل أو نظير في التاريخ.. كل شيء في حياتنا يتغير وبسرعة لا يصدقها العقل.. أنماط حياتنا وطرق تفكيرنا تتغير، وسائل مواصلاتنا وأساليب ترفيهنا وتسليتنا تتغير.. إن العلماء في طريقهم إلى التوصل إلى إنجاز سيكون من شأنه تغيير أو إعادة تشكيل خصال الإنسان وسماته عن طريق الاستخدامات العلمية للجينات البشرية.. وفي اعتقادي أن هناك ظاهرتين طبيعيتين لا ينبغي للإنسان أن يتمادى في العبث بأنظمتهما التي وضعها الخالق -جلت قدرته- هما البيئة والوراثة، فالصراعات والحروب والانقسامات التي يعانيها مجتمعنا البشري المعاصر سوف تتضاعف وتنذر بأسوأ العواقب وأشنعها إذا أتيح للعبث في مثل هذه الظواهر الطبيعية أن يستمر، ويتفاقم ونحن نعلم أن بعض الاضطرابات في الطقس والأحوال الجوية والبيئية قد تؤدي إلى كوارث بشرية، وأن الوراثة قد تؤدي إلى إيجاد نماذج بشرية خطرة من طغاة وقتلة ومجرمين ولكن لعل في ذلك حكمة إلهية لا ينبغي للإنسان أن يتوغل في محاولة معرفة أسرارها وفك طلاسهما.
وجاء في الفصل الثالث الحديث عن (التأثير المستقبلي للتحولات والتغيرات العلمية والتقنية في مجالات حياة الإنسان ودوائر اهتماماته) وتضمن هذا الفصل 6 محاور منها تأثير التقنيات الحديثة على الاقتصاد، وعلى أسس النظام الرأسمالي وقواعده، على مجال النقل والمواصلات، وعلى مجالات الإعلام، الصحافة، الإذاعة والتليفزيون، مجالات التواصل الاجتماعي، المجال الطبي، على أن التأثيرات والتغيرات المستقبلية المتوقعة تشمل جميع مناحي الحياة، وكل المظاهر والجوانب التي تؤثر في معيشة الإنسان، وتتحكم في تصرفاته اليومية، ومن هذا المنطلق، فإنه لا يمكن استبعاد التأثيرات المستقبلية التي تمارسها التقنيات الحديثة على بعض المجالات الأخرى مثل الطاقة، والبيئة، والمناخ، والخدمات المالية والمصرفية، ونوعية الغذاء والطعام، بل تمتد التأثيرات لتشمل الأوضاع الاجتماعية المستقبلية وخاصة ما يتعلق منها بمستقبل الأسرة ودور المرأة وتمكينها وأسلوب تربية الأطفال والعناية بهم، إن هذا التطور المعرفي الهائل سيكون من أبرز معالمه:
- إن معظم التقنيات المعروفة سوف تحقق تقدماً ملموساً في الحقول الجديدة مثل: الهندسة الوراثية، تقنية النانو.
- سوف تنمو النباتات والمحاصيل الزراعية بشكل أكبر وتنضج بشكل أسرع وتحتاج كمية من السماد بشكل أقل.
- سوف تساعد الحواسيب والهواتف النقالة والشبكات العالمية البشر على التعاون والتواصل بشكل أكثر فاعلية، وسوف يساعد هذا التواصل العابر للقارات على انتقال الخبرات بسهولة وبتكلف أقل إلى الأماكن التي تتوافر فيها الحاجة.
- سوف تشهد القرون القادمة زيادة ملحوظة في متوسط عمر الإنسان وسوف تزيد نسبة من يعمرون إلى ما بعد مائة وعشرين عاما وجاء الحديث في الفصل الرابع عن (التحولات والتغيرات المستقبلية في المجال السياسي) وتضمن التحولات المتوقعة في هيكل النظام الدولي وفي مواقع بعض الدول، التحولات والتغيرات المستقبلية المتوقعة في العالم العربي وقدم في هذا الصدد أربعة تصورات، ثم عرض التحولات والتغيرات المستقبلية المتوقعة في منطقة الخليج العربي، وتناول في هذا الصدد: السيناريو السلبي أو المتشائم، السيناريو الإيجابي المتفائل، السيناريو المثالي.
واختتم الكتاب بأقوال منتقاة عن المستقبل، ثم قدم معاليه رؤية موجزة قال فيها: إذا أردنا أن نشارك بفاعلية في صنع مستقبلنا، فإن علينا أن نمتلك خارطة طريق واضحة المعالم ومحددة الأهداف، وأن نمتلك البوصلة التي نهتدي بها للتعرف على الطريق إلى المستقبل الذي نريده، وأن يكون لدينا تصور واع للعالم الجديد الذي نعيش فيه، وأن نهيئ أنفسنا للتعامل والتفاعل معه بالشكل الذي يخدم مصالحنا، ويحقق تطلعاتنا وآمالنا.
ومن ثم، فإذا كان السؤال هو: وما الطريق إلى امتلاك تلك الخارطة وتلك البوصلة؟ وما السبيل إلى اختيار الطريق الذي يفضي إلى ملامح هذا المستقبل المنشود؟ فإن الجواب يكمن في عبارة واحدة: الدراسات المستقبلية وبحوث استشراف المستقبل.
وفي تبسيط مفهوم استشراف المستقبل يقول المؤلف: (شأننا في استشراف المستقبل سيكون شأن المكتشفين الجغرافيين القدامى نحو المجهول لا يعلمون أين سينتهي بهم المطاف، ولا يدركون ماهية الأخطار التي ستواجههم.. رحلتنا إلى المستقبل لن تكون مجرد استمتاع، بقدر ما هي استكشاف، ولن تكون مجرد نزعة، بقدر ما هي مغامرة، ولن تكون معلومة النتائج مأمونة العواثب، بقدر ما هي مجهولة المصير متعدة الاحتمالات، ونحن في هذا الشأن مثلنا مثل المستكشفين الأوائل تتنازعنا توقعات وتنبؤات متنافرة ومتضادة).
وفي هذا السياق لا بد من التنويه بشمولية استعراض الأستاذ الدكتور مدني للدراسات التي تناولت التغيرات المستقبلية المحتملة في نطاق العالم العربي والتي تميزت بالجدية والمصداقية ورسمت بشكل متوافق تقريبًا ثلاثة سيناريوهات محتملة للتوقعات المستقبلية قصيرة المدى في العالم العربي، أولها استمرار حالة العجز العربي عن تدارك التدهور والتمزق والفوضى إذا استمرت الظروف والعوامل التي أدت إليها، ولم يحاول العرب وهذا هو السيناريو الثاني مغالبتها وتدارك أخطارها التي تهدد مصيرهم، وقاموا بالتنسيق فيما بينهم لإصلاح ما يمكن إصلاحه وجبر ما تكسر في أوضاعهم ومكافحة التدخلات الخارجية والتطرف، أما السيناريو الثالث فهو الاتفاق فيما بينهم على تعميق التعاون والتكامل في القضايا المشتركة مثل قضايا الأمن والتنمية والتعليم والثقافة، وعلى الرغم من أن الدراسات عموماً تغلب الاحتمال الأول المتشائم، إلا أن المؤلف يرى من تجربة اليابان والصين وألمانيا - أنه يمكن للأمم أن تنهض من كبوتها وكذلك العالم العربي إذا التزم العرب بأداء مهمتين متكاملتين هما: مهمة ثقافية وحضارية وأخلاقية، والأخرى اقتصادية وعلمية وتقنية.
والحقيقة أن في هذا الكتاب الخبر اليقين بأن علم المستقبليات ليس انسياقاً وراء الخيال، بل هو مؤسس على دراسات علمية منهجية تتوقع ما يأتي به المستقبل من مستجدات، وبعض التوقعات يصيب وبعضها يخيب، لأن النبوءات قد يعترضها ظروف أو عقبات تحول دون وقوعها، وذلك إما بسبب عقبات تقنية مستعصية، أو -كما ذكر المؤلف نفسه- لعوائق مصدرها البشر أنفسهم الذين يقاومون كل ما يخالف رغباتهم وهي غريزة باقية منذ عصر رجل الكهف.