د. حمزة السالم
يستشهد كثيرٌ من الفقهاء بتكييف الوديعة البنكية على أنها قرض بحديث الزبير -رضي الله عنه- المروي في البخاري. ونص حديث الزبير يدل لفظًا ومعنى على أنه عقد مشاركة تعاوضيه لا عقد قرض. فالزبير يحفظ أموالهم ويضمنها مقابل عوائد الانتفاع منه، فالضمان مقابل الربح كما قال عليه السلام «الخراج بالضمان». وشواهد الحال ووجوب حسن الظن بالزبير حواري رسول الله كلها تدل على أنها مشاركة لا قرض. فلفظ ابنه عبد الله كما في البخاري «إنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه، فيقول الزبير لا ولكنه سلف فإني أخشى عليه الضيعة»، والسلف يدخل في عموم معنى الدَّين، ولكن يأتي بمعنى دين الاستثمار والبيع، لا دين القرض لقوله عليه السلام في السلم «من أسلف في شيء». ولهذا لم يستخدم الزبير لفظ القرض فقال فاجعلها قرضًا بدلاً من قوله بل هي سلف. فالقرض صدقة ومذلة سؤال صدقة ولا يسأله الرجل الشريف إلا من حاجة. وهو عمل لله لا يليق إن نسب للزبير سؤال الناس التصدق عليه.
ويظهر أن بعض الفقهاء المتأخرين لما اختلطت عليهم مفاهيم القرض والبيع عجزوا عن فهم حديث الزبير فحملوه لياً وقسرًا على معنى القرض، انتصاراً لشيوخهم. وعبد الله بن الزبير راوي الحديث، أحد العبادلة الأربعة -رضي الله عنهم- الذين انعقد العلم والشرع بهم بعد وفاة الجيل الأول من الصحابة الكرام البررة. وهو ابن حواري رسول الله فقيه زمانه وشهيد الحرم، أتقى وافقه من يخلط بين الاستثمار والصدقة. وقد نشأ ابن الزبير في المدينة وهم لا يطلقون السلف إلا على السلم. بل لم يأت حديث أو أثر بلفظ السلف إلا في السلم.
والزبير -رضي الله عنه- أتقى من أن يسأل صدقة الناس، ولهذا فرَّ الزبير من الوديعة لأنها من باب الإحسان للمستودع. وهو إحسان لا يطيقه، فقد في حفظها في الخزائن بدلاً من حفظها في التجارات أمر عسير في ذاك الزمن المضطرب سياسياً. فقبولها كوديعة سيكون حملاً ثقيلاً إضافة أنه تعطيل ثروة وبلا نفع عليه أو عليهم أو على السلمين. فالوديعة لا يتصرف فيها المؤتمن عليها ويعرضها للمخاطر. فلجأ الزبير للشراكة المضمونة لصاحب رأس المال. فهو -رضي الله عنه- قد تاجر بودائع الناس. وبشاهدة البخاري، أنه قبل أن يموت أوصى ابنه عبدالله أن يبيع الغابة ويسدد الناس منها. فلا ينضبط كون الزبير مقترضًا ولا مستودعًا إنما كونه مستثمرًا مشاركًا. وعمل الزبير في الحقيقة هو استثمار اسمه وثقة الناس به في تمويل تجارته.
فحقيقة العملية التبادلية التي كانت بين الزبير والمودعين واضحة وصريحة، فالزبير -رضي الله عنه- كان يأخذ أموال الناس يستثمرها لنفسه ويقضي بها حوائجه مقابل ضمانه لها، والخراج بالضمان. والضمان له قيمته، ويُسمى اليوم بالتأمين، وتفعله البنوك وله حالات كثيرة معاصرة.
فتأمين البنوك على ودائع الناس ليست مجانية بل هي بأجر. ولذلك تقل الفوائد على الودائع المؤمنة من الفوائد على الودائع غير المؤمن عليها. ومن الشواهد المعاصرة أيضًا، أنه في حالات الأزمات المالية تهرب الأموال إلى سندات الحكومات الراسخة سياسيًا واقتصاديًا، حتى ترتفع قيم هذه السندات، وتصبح عوائدها صفرًا أو قد تصبح أقل من الصفر.
وأوضح مثال لحالة الزبير، نراه أمامنا. فكثير من الناس عندنا يضع ثرواته عند البنوك دون أن يتقاضى أجرًا. والبنك عليه كلفة إدارية وتأمينية في حفظ هذه الثروات، مقابل أن يتاجر بها، في التمويلات. فهناك ربا في المعاملة واضح. فالمُودع حصل زيادة قيمة فوق ماله وهو حفظها وضمانها، والبنك حصل قيمة الزمن وحق استثمارها.
وفي الأزمة المالية أصبحت بعض البنوك تأخذ أجورًا على الاستيداع، لا تعطي. فهي حالة أقوى في الدلالة على حجتي، من حالة الزبير. وكذلك كان (قبل السماح بالاندماجيات) كثير من البنوك في العالم يأخذ أجورًا على الاستيداع ما لم يكن الحساب ادخاريًا. لأن الاستيداع له كلفة ضمان وكلفة حفظ، فإن كان الحساب الاستيداعي بلا مدة ملزمة، فالبنك لا يستطيع الاستثمار به في استثمارات طويلة الأجل والتي هي تعود على البنوك بعوائد تزيد عن كلفة حفظ هذه الودائع. هذا هو فقه المعاملات الحديثة، وهكذا يكون فهم النصوص وعمل الصحابة، لا ليها بمنطق باطل، يجعلها تصادم كثيرًا من النصوص الأخرى، ثم التعامي عن هذا التصادم، حتى فسدت عقول المسلمين، ففسدت دنياهم كما أفسدوا دينهم.