د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
لا أحد ينكر أهمية التخصص العلمي، خاصة مع تطور العلوم والفنون، وكثرة فروعها، وعمق معارفها، وتعدد وسائل الوصول إليها، وتطور التقنية التي أتاحت للجميع سهولة الاطلاع على كل جديد في العلوم والفنون، ولا شك أنَّ المؤسسات بمختلف أنواعها في حاجةٍ ماسةٍ إلى هؤلاء المتخصصين الذين يسهمون في معالجة كثيرٍ من المشكلات، وحلِّ العديد من الإشكاليات، معتمدين على معرفتهم العميقة، وتخصصهم الدقيق، الذي أفنوا فيه سنواتٍ من أعمارهم، وقد أدرك القدماء هذه الأهمية، يقول الفراهيدي: «إذا أردتَ أن تكون عالماً فاقصد لفنٍّ من العلم»، ويقول القاسم بن سلَّام: مَا نَاظَرَنِي رجلٌ قطُّ وكان مُفَنِّنًا فِي العلوم إلا غلبته، ولا ناظرني رجلٌ ذو فنٍّ واحد إلا غلبني في علمه ذلك».
غير أني ألاحظ أنَّ مفهوم التخصص قد أخذ بُعْداً آخر في هذا العصر، فيه كثير من التطرف ونوع من المبالغة، إذ ظنَّ كثيرٌ من الناس أنَّ الإنسان المتخصص في فنٍّ من الفنون يلزم أن يكون خبيراً بكلِّ ما ينضوي تحته من تفاصيل، وعارفاً بجميع ما يتضمنه من فروع، بل إنهم يعتقدون أنه يعلم بقضاياه الدقيقة، وتطوراته السريعة، واختلافاته المتنوعة، وإشكالياته المعقدة، وجديده المتطور، إلى الدرجة التي توهموا فيها أنَّ هذا المرء هو التخصص عينه، والمعرفة نفسها!
ولأني قريبٌ من المجتمع الأكاديمي، وعارفٌ ببعض إشكالياته وخفاياه، فإنَّ حديثي هنا سيكون في هذا السياق، إذ ألاحظ أنَّ بعض الأكاديميين منخدعٌ بهذه القضية، وغارقٌ في الوهم الذي تُسبِّبه، إذ أدَّتْ نظرة بعضهم له إلى أن يعتقد في نفسه أنه المرجع والمآل في التخصُّص، وأنه لا يحكم فيه غيره، وأنَّ قوله الفصل في كلِّ مسائل العلم وقضاياه، سواء تلك التي عرفها عن قرب، أو تلك التي قرأ عنها مجرد قراءة، أو حتى تلك التي لا يعرف عنها شيئا، فلعب الدور وعاش الوهم، ونتج عن ذلك خلط كبير، ونتائج كارثية، وتصنيفات خادعة، وشلليات مقيتة.
إنَّ مفهوم التخصُّص لا يعني أن يكون المرء عارفاً بكلِّ تفاصيل العلم أو الفن؛ لأنَّ الواقع يقول إنَّ تخصصه جاء بناءً على رسالةٍ أكاديميةٍ أو اثنتين، ومجموعةٍ من بحوث الترقية المحكمة المنشورة، وإذا كان هذا هو المعيار الذي يُحتكم إليه في النظر إلى الأكاديمي بأنه متخصص في علمٍ من العلوم فإنَّ هذا الأستاذ لا يبدو لي -ولا ينبغي أن يبدو للبقية- بأنه ملمٌّ بكلِّ فنونه وعارفٌ بجميع قضاياه؛ لأنَّ معرفته العميقة -على افتراض أنها كذلك- إنما هي فيما كتبه وقدَّمه وحُكِّم له ونشره، وكل هذا قد لا يمثِّل 1% من قضايا العلم الدقيقة وفروع الفن المتشعبة، هذا إذا أخذنا في لاعتبار أنَّ ما قدَّمه قد بلغ الغاية في الجودة والإتقان، وأنه كان قادراً على تغطية الموضوعات التي تناولها في أطروحاته وأبحاثه.
وبناءً على هذا فإنَّ إشراف الأكاديمي على طالبٍ في التخصص ينبغي ألا يُفهم بأنه إشرافٌ مثالي، وأنَّ هذا الأستاذ سيكون قادراً على إفادة الطالب بالصورة التي يعتقدها البعض، أي من خلال النظرة التي تتوهَّم أنه العارف الفاهم في كل القضايا؛ لأنَّ احتمالية أن يكون موضوع الطالب في فرعٍ من فروع التخصص لا يفقه فيه المشرف شيئاً تبدو معقولةً ومنطقيةً بشكل كبير، بل إنها هي الغالب، وحينها يكتفي صاحبنا المشرف بالتركيز على القضايا المنهجية والتنسيقية، وربما صادفته بعض الأمور العلمية الرئيسة التي لا يمكن أن تخفى على مَن كان له أدنى معرفة بالتخصص، وما كان اختياره مشرفاً لهذا الموضوع إلا لأنه أقرب الموجودين وأنسبهم، وليس أمام الأقسام العلمية إلا هذا الطريق.
إنَّ أكبر عالم وأبرز متخصص في أي فنٍّ من فنون المعرفة لا يمكن أن يحيط بها، ولا ينبغي أن يُنظر إليه على أنه كذلك، ومن ثم فإنَّ إشرافه على أية أطروحة علمية يضيف إليه في الحقيقة أكثر مما يضيف هو إليها حتى لو كانت في تخصصه، بل إنَّ كثيراً من العلوم والمعارف الجديدة التي يحصل عليها الأكاديمي في مجال تخصصه إنما يكون بعد إشرافه على مثل هذه الرسائل، والمصيبة حين يظنُّ أنَّ هذا كافٍ ليطور علميته، ويتوهَّم أن الوقت قد آن ليتوقف عن القراءة في تخصصه ومتابعة الجديد فيه.
إنَّ الأكاديمي الفطن ينبغي ألا يُخدَع بهذه النظرة الموهمة، وأن يحترم إمكاناته العلمية وقدراته المعرفية، وأن يعي تماماً أنَّ تكليفه بأية مهمةٍ تتصل بتخصصه لا يعني أنه سيبدع فيها حتماً، معتمداً على أنه عارفٌ خبيرٌ بكل ما يتصل بها من قضايا، كما ينبغي عليه في الوقت نفسه ألا يتوقف عن تطوير نفسه، وإثراء معرفته وثقافته مهما بلغت درجته العلمية، ومهما علت رتبته الأكاديمية، وأن يدرك أنَّ نظرة الناس إليه في التخصص لا يتجاوز ما كتبه في سنوات خالية، وأن يحاول متابعة كل جديد في التخصص، حتى يتمكن من مسايرته وال إبداع فيه.