محمد عبد الرزاق القشعمي
يعد الشيخ عبدالله بن صالح بن عبدالله الفالح عالما من طلبة العلم المبرزين، إذ هو من تلاميذ العلامة الشيخ عبدالرحمن السعدي قبل التحاقه بمدرسة (دار التوحيد بالطائف) عند افتتاحها. وقد عده الكثير بالنبوغ والتفوق وقالوا عنه: سيذكر التاريخ أن هناك شخصاً نابغة ومبدعاً لم يجد من يقدره وينزله المكانة اللائقة به.
علمت أنه بعد تقاعده وفقده لبصره اعتكف في بلدته (عنيزة) وحيداً لا قريب له ولا رفيق إلا شخص نذر نفسه له.
حرصت على التعرف عليه ومقابلته فذهبت إلى عنيزة وكان اللقاء في مسجد الشيخ عبدالرحمن بن سعدي بعد صلاة ظهر يوم 29 صفر 1419هـ، إذ سمعت عنه الكثير من نبوغ وذكاء وسرعة استيعاب لما يقرأ منذ كان طالباً في دار التوحيد بالطائف في نهاية الستينيات الهجرية من القرن الماضي - الأربعينيات الميلادية – فكان منغمساً في قراءة الدوريات الثقافية المختلفة وبالذات المصرية منها مثل: الرسالة والثقافة والهلال وغيرها، فكان يأخذها معه إلى الفصل ويضع إحداها في وسط الكتاب المقرر ويتخذ من آخر الفصل مكاناً له، فتنبه له المدرس وهو يلقي أحد الدروس النحوية . عندما وقف المدرس على رأسه وهو منهمك بالقراءة لامه على عدم متابعته للدرس وانشغاله بأمور أخرى لا علاقة لها به، فسأله المدرس، ماذا كنا نقول ؟ فرد عليه بجواب المتابع الفاهم قائلاً له: إنك أخطأت في شرح أو إعراب الجملة التالية، والصحيح أنها كذا!! فتعجب منه المدرس بعد أن عرف أنه قد أخطأ فيما سبق شرحه للطلبة فأعفاه من العقوبة والمتابعة، وتركه يقرأ ما يشاء علماً بأنه يأخذ الأول على زملائه في أغلب الامتحانات وعندما تخرج من كلية الشريعة بمكة عام 1372هـ كان هو الأول على دفعته.
وهكذا، فبعد صلاة الظهر انتظرت حتى خرج أغلب المصلين، فدلني عليه أحدهم، فوجدته قد افترش منديلاً واضطجع عليه، فجلست بجواره مسلماً، فلما أحس بوجودي نهض جالساً ورد التحية بمثلها ووجدته قد كف بصره وبملابس متواضعة وشبه متسخة، فذكرت له أسماء بعض زملائه في دار التوحيد بالطائف ونقلت له تحيات بعضهم وبمجرد ذكر أسماء: محمد بن جبير وعثمان الحقيل وصالح الحصين وعبدالمحسن التويجري وعثمان بن سيار إلا وبدأ يبتسم ويذكرهم بالخير ويترحم على من توفي وهو الشيخ عثمان بن إبراهيم الحقيل والذي تعرض لحادث سيارة وهو في طريقه من مكة إلى الرياض في حدود عام 1392هـ رحمه الله.
وعندما ذكرت له ما سمعته من زملائه من نباهة وذكاء وسرعة استيعاب، قال: إن زملائي يحسنون الظن بي وفي ذلك شيء من المبالغة. وسألني عن بلدي وعندما عرف أنها الزلفي قال: إن بها من يسمى بالفالح ويقال: إنه يمت إليهم بصلة، فبدأ بسرد شيء من ذكرياته عندما عرف أنني أسجل معه ضمن برنامج التاريخ الشفهي لمكتبة الملك فهد الوطنية قال: إن الملك عبدالعزيز- رحمه الله- بعث ببعض طلبة العلم لاختيار من يرغب من الشباب الدراسة بالمدرسة الجديدة التي افتتحت مؤخراً بالطائف باسم (دار التوحيد) وأنهم قد اختاروا مجموعة من شقراء وبريدة والرس والزلفي وكان مرور السيارة (الملاحة) بعنيزة التي سيلتحق بها من يتم اختياره منها وكان أحدهم .. وقال: إنهم قد ودعوا أهاليهم وركبوا السيارة قاصدين الطائف وكان يتبع سيارتهم سيارة صغيرة بها الشيخ إبراهيم الرشودي من بريدة وكان يشجعهم ويحثهم على طلب العلم وبمجرد وصولهم إلى النفود توقفوا فوجدوا الرشودي وقد بعث من سبقهم ليعد لهم طعام الغداء، وبعد الغداء ودعهم وعاد إلى بريدة .
عندما دخلت سيارتهم رمال النفود بالقرب من الرس وتباطأت سرعتها قفز اثنان أو ثلاثة من الطلبة هاربين ليعودوا إلى أهلهم خوفاً مما أشيع أن القصد من نقلهم ليلحقوا بالجيش ليحاربوا إسرائيل دفاعاً عن فلسطين.
وقال: إنه كان يرافق طلاب بريدة وعنيزة مدير مدرسة بريدة الشيخ عبدالله بن إبراهيم بن سليم نهاية عام 1364هـ، وكان مدير دار التوحيد الشيخ محمد بهجت البيطار من الشام.
وذكر أن جده عبدالله كان مندوباً للتاجر الشهير في الشام والعراق وفلسطين محمد العبدالله البسام وأنه كان مقيماً في حيفا بفلسطين، وقد توفي هناك فذهب ابنه صالح لينهي بعض الأمور المتعلقة بوالده، وصالح كان من العقيلات في مصر معروفاً بالمطرية هناك فاستوطن مصر وتزوج هناك وولدت له ذريعة في مصر وأنه عاد في آخر حياته ليعيش لدى أحد أبنائه في الدمام حتى توفي.
وقال: إنه عمل مدرساً في مكة المكرمة وقد ابتُعثَ مع مجموعة من المدرسين إلى لبنان في حدود 1373هـ لتلقي بعض الدورات التدريبية في التعليم في الجامعة الأمريكية وغيرها. وقد وجدت جريدة البلاد السعودية قد نشرت الخبر في عددها 1597 الصادر بتاريخ 1373/11/14هـ الموافق 1954/7/15م تحت عنوان: «بعثة لدراسة فن إدارة المدارس».
وافقت وزارة المعارف على انتداب الأساتذة محمد فدا مدير المدرسة الرحمانية الثانوية، وعبدالله بغدادي مدير مدرسة تحضير البعثات, وعبدالله الفالح، وشرف جمال المدرسين بالمعهد، وعبدالرحمن المسفر المدرس بالمدرسة الفيصلية ، انتدابهم بالسفر إلى لبنان لدراسة فن إدارة المدارس ، وقد سافروا يوم أمس بطريق الجو إلى بيروت لهذه المهمة، ومما يجدر ذكره أن مدة الدراسة ستة أسابيع ) وأن آخر عمل تولاه بصحبة الأستاذ محمد السليمان الشبل عندما كان مديراً لمدرسة العزيزية الثانوية بمكة المكرمة. وكان ذلك في التسعينيات الهجرية حيث تفرغ لإدارة المكتبة المدرسية دون إلزام بالحضور اليومي، وقال: أو سمعت من غيره أن الرواتب كانت تصرف نقداً في السابق فأستبدلت بشيكات تصرف عن طريق البنك، وقد تأخر استلامه لعدة أشهر، فكان مراسل المدرسة يدس الشيك من تحت باب منزله ولضعف بصره كان يجدها فيعتقد أنها قطعة من جريدة أو كتاب فيأخذها ليسد بها أحد خروم الجدار، فذهب إلى المدرسة ليسأل عن رواتبه المتأخرة فأبلغ بأنها توضع تحت باب منزله فذهب أحدهم معه ليخرجها من فتحات الجدار.
الفالح شاعراً:
يذكر الشيخ محمد بن إبراهيم الهويش – زميله في مدرسة دار التوحيد بالطائف – أن الفالح يقول الشعر ارتجالاً، وشعره قوي، ولو أراد لتكلم وأجابك شعراً فهو شاعر على السليقة قوة في الذاكرة، وسرعة في الحفظ لكل ما يقرأ، ومما أحفظه مقطوعة له قالها في مراقب كلية الشريعة بمكة – آنذاك – الأستاذ عبدالرحمن المانع ومساعده أبو الوجيه، ويبدو أن لهم موقفاً معه بخصوص المواظبة على الدراسة. وقد سمعته يقول فيهم:
مرحاً لهذا المانعي الألمعي المجتبى
أخلاقه عطراً كأزهار البنفسجي في الربى
وأبو الوجيه وزيره يهنيه ذاك المذهبا
وإذا تبدى في العقال وقد تلفلف في العبى
ألفيته كأمير قوم لا يزال مقربا كانوا
من المبنيّ في الماضي فأضحوا معربا
ويقول صديقه الأستاذ إبراهيم التركي – أبو قصي - : كان الفالح أديباً شاعراً ناقداً متعدد المواهب، ظريفاً، مجلسه لا يخلو من طرفة أو دعابة، لأنه زاهد باظهار ما عنده من شعر أو نقد، وأكثر ما وجد له نشره غيره أو وجد تعليقاً على هوامش الجرائد والمجلات التي كان يقرؤها، والبعض أخذت الأوراق منه بعد ألقائها مباشرة، والكثير ضاع مع غيره، لعدم اهتمامه بالتسجيل والنشر، وضرب مثالاً بقصيدة ألقاها بمناسبة انتهاء مبنى المدرسة السعودية بعنيزة في عام 1372هـ وقد انتزعها بعد ألقائها مباشرة المربي عبدالله بن إبراهيم الجلهم وأملاها على تلاميذه بالصف السادس الابتدائي في نفس المدرسة، وبهذا حفظت وإلا لضاعت مثل غيرها، ومنها يقول:
طلع الصباح فهل رنوت إلى هنا
لترى السنا الرفاف يهتف بالمنى
يختال بالأفق الرحيب كأنما
كشفت له الأيام مما استبطنا
فمضى يتيه على الزمان وأهله
ويريق لحن البشر في سمع الدُّنى
فاهتف لمن قد شادها متفضـلاً
لله مـا قد يبتنيــه وما بنى
قد كنت أحسبه خيالاً عابراً
فإذا به يحلو بعيني مسكنا
تبدو الأمور على التواني صعبةً
فإذا عزمت لقيت شيئاً هينا
العلم فيه على الذرى متربع
والجهل ينبذ في التراب مكفنا
بالعلم يُحمى يا بني وطني الحمى
لا بالسيوف كما مضى أو بالقنا
أبداً أنا الباكي إذا وطني اشتكى
وأنا الغني - ولو عدمت - إذا اغتنى
في مهجتي ألم وفي قلبي أسى
حتى أرى وطني أعز وأمكنا
وقال التركي إن لديه قدرة شاعرية تتجلى بسرعة بديهته، إذ كان يسبغ الوضوء ويتأخر كثيراً – بما يشبه الوسواس – وقد أطال ففاتته الصلاة مع الجماعة وكان الشيخ محمد الصالح العثيمين – كما يزعم الفالح – مستعجلاً في صلاته، وأن مؤذن المسجد عبدالله العمري مستعجلاً مثله في الأذان فقال فيهم:
إذا العمري عجل في الأذان
وجاء الشيخ يعدو كالحصان
فلا تعجب إذا فاتت صلاة
تولى أمرها المستعجلان
وقد وجدت له مقالة قصيرة في جريدة البلاد السعودية ففي العدد 2143 الصادر بتاريخ 1375/9/25هـ الموافق 1956/5/2م تحت عنوان : (سرقة أدبية) يكشف فيها أن القصيدة المنشورة بعنوان : (حينما نلتقي يا قلب) بتوقيع (فتى الصحراء) من الرياض، سبق أن نشرها الشاعر محمد هاشم رشيد في ديوانه (وراء السراب) فيقول أن هذا اعتداء لا يليق فهو عمل لا يرفعهم بقدر ما يهوي بهم إلى الحضيض .. إلخ .
وقال خالد الهويش نقلاً عن والده الشيخ محمد: «.. وقد ضاع كثير من شعر الشيخ عبدالله، والذي أعتقد أنه يشكل ديواناً بسبب عدم اهتمامه، ولأنه يقول الشعر ارتجالاً، وعلى العموم فإن الشيخ عبدالله يعتبر من النوابغ سواء في سعة معلوماته أو ذكائه أو قدرته العلمية والأدبية والفكرية، ولو أتيح له من يتابع إنتاجه لظفر بالعلم والشعر والأدب بمحصول علمي وأدبي غزير ورفيع..
كان خلال دراسته متميزاً ومتفوقاً على زملائه، وأنه ضمن الدفعة ا لأولى التي تخرجت من دار التوحيد وكلية الشريعة، وكان زملاؤه يسمونه بالرائد، وكان رئيس دفعته عندما تخرجوا من كلية الشريعة بمكة المكرمة.
وقال أنه لم يكن يحرص على المذاكرة كثيراً، ومع ذلك تفوق على زملائه، لأن لديه حصيلة علمية قبل دخوله الدار، وكان في حياته بسيطاً متواضعاً قضى حياته لم يتزوج، عاش حياته بعد تخرجه في مكة ويقضي بها الشتاء والربيع والجزء الباقي يقضيه في عنيزة مسقط رأسه في فصل الصيف.
وقال أنه يحرص على قراءة وجمع وشراء الصحف والمجلات والدوريات والكتب الخارجية التي تصل إلى الطائف ومكة من مصر ولبنان وسوريا في ذلك الوقت ويقتطع جزءاً من مكافآته للحصول عليها، وقلّ أن تراه إلا وتجد في يده جريدة أو مجلة مما أكسبه ثقافة واسعة.. ».
قال عنه زميله – في المدرسة السعودية بعنيزة – معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر: «عاش في عزلة ورحل بصمت .. الشيخ عبدالله الفالح في ذواكرهم زميلي في الصف الثاني»: «.. وقد أثبتت الأيام أن عبدالله الصالح الفالح عبقري لا يجارى، وظهرت عبقريته واضحة عندما التحق بمدرسة دار التوحيد في الطائف، فكان أعجوبة في الذكاء، وقوة الذاكرة، وسرعة التحصيل... » عن كتاب (وسم على أديم الزمن) الجزء الأول.
أما معالي الشيخ محمد بن جبير – زميله في دار التوحيد – فيقول عنه في مقابلة تلفزيونية مع الدكتور عبدالرحمن الشبيلي: «.. الشيخ عبدالله الفالح، وكانت لي به علاقة طيبة في دار التوحيد وهذا شخص غريب الأطوار فمن الناحية العلمية برز، لديه حصيلة علمية كبيرة خاصة في علوم اللغة العربية والبلاغة والعلوم الدينية، والحديث، والتفسير، والفقه، والتوحيد، جاء إلى دار التوحيد وهو كبير السن، وكان من طلبة الشيخ عبدالرحمن السعدي في عنيزة، وكان يتولى مكتبة عنيزة التي يشرف عليها الشيخ السعدي..
قلت له يوماً يا شيخ عبدالله أنت الآن لسنا من مستواك ونحن نلهث وراءك ودروسنا يالله نقدر نستوعبها وأنت لا تذاكر ومع ذلك أراك مستوعباً كل الدروس، فقال لا تتعجب أنا قرأت الروض المربع وهو كتاب من كتب الفقه المعتمدة يتكون من جزءين قرأته مع الشيخ عبدالرحمن السعدي سبع مرات، نحن في دار التوحيد وكلية الشريعة لم نقرأه إلا مرة واحدة فأراد أن يضرب لي مثلاً، لأنه فعلاً قرأ كتباً كثيرة، وهو كذلك ذكي لكنه مبتلى بالوسواس، وكان معنا في دار التوحيد فيكمل ما ينجح إلا في الدور الثاني، ويمكن ترتيبه الأخير، وفي كلية الشريعة كذلك لكنه في آخر السنة شد حيله وصار ترتيبه في التخرج الأول على دفعته.
والشيخ عبدالله الفالح صديق لي، وكان مغرماً بقراءة الصحف المصرية، يحجزها عند وكيلها في الطائف شخص يقال له مصطفى الرصيني في برحة القزاز، وكيل لمكتبة الثقافة في مكة المكرمة، والشيخ عبدالله الفالح يحجز عنده مصروفه الجيبي في هذا، فإذا جئت إلى غرفته وإذا فيها ركام غير منظم من الصحف والمجلات، فأي داخل عنده يستلذ بالجلوس معه ومحادثته..».
وقال أنه يسأل عنه ويتتبع أخباره، وعلم أنه مقيم في عنيزة وقد ضعف بصره، وشاخ وانحنى ظهره، وقال أنه يفكر بزيارته لأن له الحق «.. فهو زميل دراسة وصديق، وأنا أحبه في الله، وكنت في فترة من الفترات أتولى شؤونه يعني لا يروح يقبض راتبه وكنت أذهب أنا وأقبضه له لا يهتم بأمور الدنيا ويتركها».
وكان عمله قبل تقاعده عام 1400هـ أمين مكتبة المدرسة الثانوية العزيزية بمكة المكرمة والتي يديرها صديقه الشاعر محمد السليمان الشبل والذي قال عنه: يستمتع بجلساته المحدودة مع بعض أصدقائه القدامى، حيث يطيب له حينها الحديث عن ذاكرة ثقافية ممتدة من مصر إلى الحجاز فنجد، ويرى أن طه حسين قد شبهه بالعقاد في موسوعيته المعرفية حين التقى به في القاهرة.
قال عنه الشيخ محمد الناصر العبودي في كتابه (معجم أسر عنيزة): «.. عينه الشيخ محمد ابن ابراهيم آل الشيخ قاضياً في الرياض فاعتذر، فعينه مدرساً في معهد عنيزة العلمي فاعتذر أيضاً لأنه رغب السكن في مكة المكرمة فعينه الشيخ محمد بن مانع وكان مدير المعارف العامة في ذلك الوقت مدرساً في معهد المعلمين وأمين مكتبة المعهد لأنه يحب القراءة والإطلاع.. ».
سألته متى تقاعد عن العمل؟ فذكر أن ذلك كان على رأس القرن.
يعني 1400هـ وأنه يقيم في منزل قديم مهجور بمفرده، إذ لم يتزوج وفي هذه الأثناء حضر إليه الشاب إبراهيم مهنا التركي ؛ ليصحبه لتناول طعام الغداء. عرفت فيما بعد أن هذا الرجل قد اهتم به وحرص على مرافقته ونقله إلى حيث يريد واعتنى به عند مرضه آخر حياته.
وكتب معالي الأستاذ عبدالعزيز السالم قبل بضع سنوات من وفاته بجريدة الجزيرة بتاريخ 1427/3/6هـ الموافق 2006/4/4م مقال تحت عنوان: (الناسك الذي عاش في الظل!!) نختار منه:
«.. ومن هؤلاء الذين يتفادون الأضواء ويتجنبون الاجتماعات الحاشدة والحفلات العامة: رجل عاش للعمل وحده، وتبتّل في محراب الإيمان، وعاش حياة شبه انفرادية. يعبد الله على بصيرة، ويقتصر في لقاءاته واجتماعاته على عدد محدود من زملائه وأصدقائه. تخرَّج في دار التوحيد في دراسته الثانوية، وفي كلية الشريعة في دراسته الجامعية، فكان الأول على دفعته في الدار وفي الكلية، ولم يَزْدَهِهِ هذا التفوق الثانوي أو الجامعي. حتى إني أذكر عندما نُشرت أسماء الخريجين، واسمه يتصدرهم، وهنأته على الأولية، قال: (أنا الأول في نهاية القائمة). وقيل انه قال: «هذا ما هوب من جودي لكن من رداكم». وهو تفوق يُحسب له؛ لأنه تفوق على طلاب أذكياء متفوقين في دراستهم، وكلامه لون من تواضعه الجم وإنكار الذات بصرامة. وليس هذا التفوق مستغرباً منه؛ فقد كان يُطلق عليه لقب شيخ وهو طالب، حتى إن بعض الأساتذة عندما كان يطرح عليه السؤال لا يكلمه باسمه المجرد، وإنما يضفي عليه لقب الشيخ؛ إنه شيخ في هيئة تلميذ، وعالم في صورة طالب.. هذه حقيقته، وتلك صفته.
وحين عبَّر عن تفوقه ذلك التعبير الساخر فلأنه لا يهتم بأن يرى نفسه متصدراً زملاءه ومتفوقاً على رفاقه، فهو يتمتع بروح شفافة وإنسانية راقية، ولديه روح النكتة اللطيفة والطرفة المؤنسة، فمع تدينه العميق وسمته الوقور فإن مجلسه أنيس، وحديثه رائق، وصوته هادئ، والجلوس معه ماتع لا يُمل؛ لأنه مفيد، فعلمه غزير، وثقافته واسعة، إلى جانب ما يتمتع به من حافظة رائعة، وذاكرة قوية، وموهبة متفتحة، وعبقرية لا عيب فيها سوى أنها مهملة من صاحبها ولم يكتشفها مجتمعه. وأمثاله من الموهوبين لا يُعرفون إلا بعد غيابهم.
كانت سمعته تسبق رؤيته، وعلمه يتقدم على مظهره. يتمتع بحاسة يقظة ونظرة فاحصة لا يدركها مَن لا يعرف حقيقته، ومن يعرفه حقاً يدرك مدى ظرفه ووداعته، إضافة إلى أنه موسوعي المعرفة متنوع الثقافة، يتحدث في كل جانب من جوانب العلوم والثقافات بتعدد ألوانها. ما إن تجتمع به حتى تحبه وتأنس إليه، وما إن يتحدث حتى تقدِّره وتجلَّه وتنسى أنه لا يهتم بمظهره؛ حيث لا ترى فيه سوى الجوهر المتألق من الداخل، فاللؤلؤة في البحر مجرد صدفة كغيرها من الأصداف البحرية ليس لها أهمية ولا قيمة، ولكن ما إن تجلوها حتى تبرز أصالتها، وتبدو نضارتها، وتتألق مكانتها، وتتأكد قيمتها.. كذلك كان صاحبنا. تراه في تواضعه الطبيعي، وسمته الهادئ، ومحيَّاه اللطيف يتكلم بما يشبه الهمس في وداعة وتؤدة، فلا يشد بعض الأنظار، ولا يلتفت نحوه الكثيرون، حتى إذا تحدث على سجيته وأجاب عن الأسئلة المطروحة أمامه تجلَّى ذلك المظهر المتواري خلف إنكار الذات - المغلَّف بتواضع صادق غير مصطنع - عن عالم واسع المعرفة متعدد المواهب. يقرأ الموسوعات الكبيرة، ويطلع على المراجع العلمية العديدة فيستوعبها ويخزِّنها في ذاكرته، ويضيف إليها اطلاعاته الكثيرة المتنوعة في مجال الصحافة الداخلية والخارجية.
كما أنه يتابع حركة التأليف بكل أنواعها القديمة والمعاصرة، وعليك ألا تقاطعه وهو يستفيض في الحديث بمعلومات جمَّة ومعارف متعددة، ذلك أنه يصدر عن مخزون ذاكرة قوية، وذهنية متوقدة، وحضور ذهني باهر.
واسع الاطلاع، محب للقراءة، يُزاوج بين العلوم التراثية والثقافة الحديثة. متابع لما يُنشر، ولا سيما من أدباء العصر الكبار بمختلف توجهاتهم وتنوع أفكارهم. فكان يشتري المجلات والصحف من مكتبة (الثقافة) الواقعة بباب السلام بالحرم المكي.. وفي حصوات المسجد الحرام في ذلك الحين كنا نتناقش ونتداول ما يُطرح من آراء وأفكار مما ينشر في مطبوعات أو صحف ومجلات، فنقضي ما بين صلاتي المغرب والعشاء في مداولات ثقافية هو المتجلي فيها وأنا المستفيد منها، وهو يثري أي موضوع يتكلم فيه، أو أي موقف يتحدث عنه.
والمؤسف حقاً أن هذا العالم الموهوب حين يرحل لا يترك بعده أي أثر علمي أو أدبي وهو العالم المثقف والناقد المميز والشاعر لو أراد.. لكنه عاش في هذه الدنيا كالزائر الذي يرى الإقامة فيها مرتبطة بزمان مهما طال فهو قصير، ومهما امتد فهو محدود. لذلك كان زاهداً في دنياه، لم يكن المال يمثل أدنى اهتماماته ولا أقل التفاتة في تطلعاته، بل لم يكن له محل في هاجسه ولا في مجلسه، حتى إنه عندما عَمِل لم يسأل عن راتبه، وإذا لم يهتم أحد من محبيه باستلامه فإنه لا يسأل عنه ولا يطالب به. وهو يعيش على الكفاف، ويقنع باليسير، ووقته كله للقراءة الدائمة والاطلاعات الواسعة، وهو كذلك لا يشغل وقته بغير ذلك.. كما أنه أديب وشاعر أنيق العبارة، مرهف الحس، شفيف الروح، يقول الشعر وإن كان مقلاً فيه، ويبدع الكلمة إذا كتبها، ويبرع في النقد في مجاله.
والحديث عن الشيخ الفالح العالم المغمور والمثقف المجهول يعيدني إلى الوراء عقوداً من الزمان، حينما التحقت دارساً بدار التوحيد. وإذا كان قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجنَّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)، فقد ائتلفت روحانا على الرغم من فارق السن والعلم، فكنتُ لا أزال أزحف في السفح وهو يحلِّق في القمة، وهو لي بمثابة الأستاذ وأنا بالنسبة إليه بمستوى التلميذ. وقد أُعجبت بتواضعه، وأنست برحابة صدره وسعة علمه وهو على مقاعد الدراسة، فتوطدت علاقتي به، وظلت تلك العلاقة موصولة به في الطائف وفي مكة المكرمة عندما انتقل إلى كلية الشريعة وانتقلت أنا إلى مكة، فكان يجمعنا الحرم الشريف وتربط بيننا أواصر الثقافة.
مهما امتد الحديث عن هذا الناسك المتبتِّل الذي أمضى حياته في الظل حتى صار مجهولاً من مثقفي عصره فلن نوفيه حقه، وما عند الله خير وأبقى. وقد جرى ما يُشبه العُرف ألا يتم الاحتفاء بمن يستحقه إلا بعد الوفاة، وقد أكون مخالفاً لهذا العُرف بما كتبتُه عن إنسان يستحق التكريم وهو يعيش بيننا، وإذا كان اسمه غائباً عن مجتمعنا فلأنه قد ارتضى هذه العزلة الاختيارية، ومقالتي هذه تحية وفاء في عصر الجحود لشخصية تستحق التنويه والتكريم.
وقال الشاعر عبدالرحيم الأحمدي:
عندما كنت طالباً في معهد المعلمين الابتدائي بمكة المكرمة عام 1374هـ قدم الشيخ عبدالله الفالح إلى المعهد مدرساً لمادة الفقه والتوحيد. كان يؤدي دروسه هادئاً غير ملتفت لما يثيره الطلاب من شغب بل كان يلقي نظرة تأمل لدقيقة ثم يعاود الشرح قاعداً على كرسيه، دون أن ينبس بكلمة واحدة، وكان الخجل يرتسم على وجوه الطلاب، فيقف مستخدما السبورة للشرح فيتلقى من بعض الطلبة رجما بالطباشير فلا يرد بغير التأمل تأنيباً صامتاً، وتأديباً معنويا.
وكانت أول قصيدة تنشر لي في الصحف بعنوان «الربيع» بعد مراجعتها من قبله رحمه الله. وألحق أن أكثر الطلاب يقدرونه ويؤنبون زملاءهم المشاغبين.
توفي ودفن رحمه الله في مسقط رأسه (عنيزة) بتاريخ 22 ربيع الأول 1433هـ الموافق 14 فبراير 2012م عن 85 وقيل 90 سنة.