د. إبراهيم بن محمد الشتوي
.. ويمثل الصوت الثاني صوت الشاب المراهق الذي يصفه الراوي (الكاتب)، وهو وإن كان لا يظهر إلا من خلال صوت السارد العليم بكل شيء، وهو هنا المؤلف، ولا يظهر إلا من خلال تصويره، فإن طبيعة السارد العليم بكل شيء هي أن يقدم الأشياء من خلاله.
بيد أننا لا يمكن أن ننفي أن هذا الصوت، وصورة الشاب فيه تمثل صورة الشاب المعاصر لدى المؤلف، وقد لا يبدو أنها صورة محايدة، بمعنى أن المؤلف قد سعى لأن يصور شباب اليوم من كل جوانب حياته الإيجابية والسلبية، وإنما كما بدت في ذهنه هو.
فالشاب المعاصر ملول، لا يظنه الكاتب سيصبر على متابعة حكاية المطبخ القديم، ولذا يسعى أن «يداريه» بفكاهة يستدر بها صبره، وهو أيضا في عجلة من أمره لا يلتزم بما يطلب أو يريد، فالمواعيد التي يضربها للطعام تزول بناء على نداء البطن، و الرغبة في الاستمرار باللعب تجعله لا يهتم بآداب الأكل ولا مواعيده، كما أنه يشتم الناس، ويدعو عليهم، ولا يخطر بباله أن يسامح أحدا، بل كل المواعيد التي يضربها «مكتوب في مقدمتها عدم الوفاء قدوة بعرقوب»، وهذا الملل يسيطر عليه في كل شئون حياته، «فحبله قصير، ووعاء صدره أضيق من سم الخياط»، وكما أنه يمل من حديث المطبخ هو أيضا يمل من حديث الجمل، وقد يمل من القصص المشوقة عنه.
هذه الصفات كما نرى صفات سلبية، تضع «الشاب» المعاصر في خانة الطيش، والسفه، والعجلة، والملل، وعدم الجدية في شيء، في مقابل ما يجده الكاتب في نفسه، وهو النضج، والعقل، والتجربة، والشيب أيضا.
وقد يكون المؤلف قد استمد صورة الشاب المعاصر مما رآه أمامه من أفعاله، ك»انسلاحه» على المقعد أمامه، لا يستطيع أن يثبت عليه إلا قليلا ثم يصبح ظهره وكتفاه الجالسين عوضا عنه، ولكن المصدر الأكبر لهذه الصورة ليس ما يراه أمامه، وإنما ما استقر في وعيه من صورة الشباب في أيام مراهقته، وهو ما تحدثت عنه في المقالة الأولى، واعتبرته صوت المراهق القديم، فصوت المراهق الغابر هو ما يفرض نفسه في تشكيل صورة الشاب المعاصر، ولذا نجد الكاتب كثيرا ما يردد «المقارنة» بين الابن، والأب في شبابه، فيقول: هذه الصفة ليست فيك وفي جيلك، لا، الحق يقال، حتى جيل والدك»، ويقول أيضا: «فنحن يا بني، في هذا، مثلكم، في عجلة من أمرنا دائما، إلا فيما يحتاج منا فعلا إلى عجلة»، و»الصلف» الذي كان في جيل الشاب المعاصر وتحدثنا عنه من قبل، موجود في الشاب القديم كذلك، يبدو حين يدعو من يقوم بصب الماء من القربة ليروي عطشه، ولأن الشاب القديم لم يكن ناضجا في زمنه الأول، فإن المعاصر كذلك لا يهتم لما ينبغي أن يهتم به العقلاء الفطنون.
وهذا الاعتماد على الصورة القديمة في تشكيل الصورة الحديثة، يجعلها صورة نمطية قامت من خلال ثقافة الكاتب بالدرجة الأولى، تعززها نظرة الشيوخ التقليدية نحو الشباب وحاله، وهو ما أشار إليه معجب الزهراني في حديثه عن الكتاب، وليست نتاج تصور جديد عما يمكن أن يكون عليه حال الأبناء مع توفر الظروف الجديدة في حياتهم، وهي النظرة التي جعلته يكرر القول بأن عليهم شكر النعم، فإن الشكر يزيدها، وما جعله أيضا يتحدث عن أمنيته في أن يواصل الشاب المعاصر وأصحابه ما وجدوه من بناء، فيصونوه أولا ثم يزيدوه.
ويبدو من حديث الشيخ عن الفتى أن غاية أمانيه منه أن يصون البناء، ولا يهدمه، ولم يخطر في باله أن يفوق الفتى أباه، وأن يزيد عليه بما أفاء الله عليه من الوسائل المدنية، وهي نظرة قانعة غير طموح، ولا تتوسم في الشاب كثير نفع.
وهذا التوافق في الصورة بين الشاب القديم، والشاب الحديث لدى الشيخ المتكلم، واتحادهما في الحال، لا يعود في الحقيقة إلى حال الشاب المعاصر، وما هو فيه من ترف العيش، ولينه، وما أدركه من نمط حياة، ولا إلى خلق خاص به، ولا أيضا إلى معرفة بطبع الشاب القديم أوصلته إلى حالة من الفشل والإخفاق، جعله يقيس ما يمكن أن يصل إليه المعاصر على ما وصل إليه القديم، وهو ما يسمى بقياس الغائب على الشاهد، وذلك أنه قد اعترف من خلال حكاية الرجل الذي كان «يؤنب ابنه على فعل فعله، ويقول له: إني عندما كنت في سنك لم أكن لأعمل مثل هذا»، فمال إليه رجل من أصحابه وذكره بقصة من قصص شغبهم أيام الشباب والمراهقة. الأمر الذي يعني أنه يدرك أنه كان في شبابه شبيها بهذا الفتى أيضا، ومع ذلك فقد صلح حاله، ولم يعد كما كان، الأمر الذي يعني أن ما يراه من حال الفتى ليس دليلا على ما سيئوب إليه فيما بعد، وأنها لا تمثله تمثيلا حقيقيا، وهو ما يعني بدوره أيضا أن هذا الاختلاف بين الفتى والشيخ، والتجاذب، لا يعود إلى طبيعة الفتى، ولا إلى اختلاف الثقافة، بقدر ما يعد من صراع الأجيال الذي يجعل كل جيل غير قابل للآخر، ولا يرى فيما يقوم به، أو يتصف شيئا يستحق العناية والاهتمام، وقد أشار الكاتب في أكثر من موضع إلى عنايته بكل ما يمثله كل طر ف من أطراف المحادثة من جيل كامل. وربما تكون موضوع مقال خاص.