نهض العقل بدور مهم وجلي في بناء حضارة الإنسان، منذ نشأتها، فكل ما يراه المرء حوله من الناحية المادية من نتاج العقل، بدءاً من الإبرة وانتهاء بأدق الصناعات وأخطرها وأدهشها... فضلاً عن أنه أحد وسائل المعرفة اليقينية. فثمة ثلاثة أضرب للمعرفة من وجهة النظر الإسلامية الآتية من الحس /الحواس الخمس، وثانيها العقل، والثالثة المعرفة الآتية من الوحي (النقل) ونظراً لأهميته فقد جعله الإسلام مناط التكليف؛ إذ لا يكلف من لا عقل له، وكذا محط العناية والتكريم، فالإنسان أفضل المخلوقات وأكرمها على الإطلاق ما دام في كنف الله تعالى.
وقد أسبغ الله -عز وجل- الأفضلية على الإنسان، وخصه بهذا التكريم بما أعطاه من نعم، لا سيما نعمة العقل، لذلك ميزه عن سائر مخلوقاته، وفضله على كافة خلقه حتى على الملائكة، فجعله خليفته في أرضه، إذ لم يجد أفضل منه لهذه المهمة، فقال عز من قائل: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»، كما أنه حمله الأمانة التي عجزت عنها السموات والأرض والجبال، وذلك بما لديه من إمكانات واستعدادات وقدرات وفرتها له قواه العقلية. فقال جلّ شأنه: «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا».
ولو تتبعنا هذه المادة في المعاجم اللغوية لوجدناها تدور حول: الإدراك والتمييز والفهم والملجأ والحصن، والقيد والعقال الذي يمنع الإنسان من التهور والخطأ وتنكُب جادة الحق والصواب. وأما في الاصطلاح، وما يهمنا -هنا- الإشارة إلى قدراته، وما يقوم به، فهو يربط بين الأفكار وبه تتم المعرفة، والرؤية والتقدير، ومن خلاله تُعلم صفات الأشياء، من حيث حسنها وقبحها، وكمالها ونقصانها، وبه تدرك العلوم الضرورية: العملية والنظرية، واستنباط الخاص من العام، والجزئي من الكلي...إلخ.
إن المتتبع للفظة (عَقَلْ) مصدر الفعل (عَقَلَ) في القرآن الكريم، لن يجد لها ذكراً قط؛ ولكن وردت مشتقات الفعل، إذ وردت صيغة «يعقلون»، اثنتين وعشرين مرة، ووردت صيغة «يعقلها» مرة واحدة، وصيغة «نعقل» أيضاً مرة واحدة، وصيغة «عقلوه» مرة واحدة. أما صيغة «تعقلون» فقد جاءت في أربع وعشرين مرة. وأما متعلقاتها: «الألباب /جمع لب/ فوردت ست عشرة مرة، ولفظة «النهى» وردت مرتين، ولفظة القلب في مدلولها على العقل، فوردت مئة وأربع عشرة مرة، ولفظة «الحجر» وردت مرة واحدة، و«فكّر» مرة واحدة، و«تتفكروا» مرة واحدة، و»تتفكرون» ثلاث مرات، و»يتفكروا «مرتين، و»يتفكرون» إحدى عشرة مرة.
ولعل هذا الاهتمام بالعقل والعناية به على هذه الصورة اللافتة دلالة على المكانة الفريدة والمميزة التي جعلت منه مناط التكليف للأحكام الشرعية والواجبات الدينية،
ولذلك تميز الإنسان عن سائر المخلوقات، ونال التكريم حتى على الملائكة الأبرار. وقد حثنا الله تبارك وتعالى على استخدامه في عمارة الأرض في مواطنه وضمن حدوده حتى لا يزل أو يضل. فسبحان من رفع التكليف عمن لا عقل له ، فإذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب، وسبحان من أطلق للعقل حدوداً لا نهاية لها في البحث في النفس والآفاق حتى يتبين له الحق، ويكتشف المعجزات الدالة على خالقه.
** **
- د. طامي دغيليب