أحاول أن أنطلق في هذا المقال من السؤال التالي : كيف يمكن للتعددية الثقافية أن تبني مشتركًا حواريًا بين البشر ؟!
و حول هذا التساؤل يجدر بي أن أعمق فكرة كمقدمة في التعامل مع الثقافة ؛ وهي أن الثقافة متغيرة لا متطورة ؛ بمعنى أن الثقافة البشرية على مر تاريخها الإنساني تمر بمتغيرات في آلياتها و مفاهيمها؛ وهذه التغيرات ربما تكون أقل كفاءة مما سبق ؛ فالتطور يقتضي الأفضل بينما التغير يقتضي التحول بمنأى عن الأفضلية ؛ وهذا المنطلق يجعلنا نتعامل مع الثقافة بشيء من الجدلية التي لا تحكم بالقدسية ؛ فالثقافة المقدسة هي مطلب طوباوي يخضع لفكرة الفردوس المفقود ؛ أما الثقافة البشرية فهي تمرُّ بمراحل تتكاتفها السلطات و البيئة لأجل تغييرها.
و لعل هذا المنطلق يجعلنا نهتم بالتعددية الثقافية باعتبار كل الثقافات متغيرة لا متطورة ؛ فلا توجد ثقافة أفضل من الأخرى بل هي تغيرات تأخذ من القديم و الحديث ؛ فربما تكون هناك سمات في الثقافة القديمة تفوق سمات كُثر في ثقافات حديثة ؛ و هنا نُسقط الثقافة المسيطرة التي تتبنى الحداثة باعتبارها الأفضل و الأنسب للبشر ؛ فليس من المهم أن يكون لبس (الجينز) هو الدليل الأهم في تطور الإنسان بينما لبس (الثوب) دليل على تخلفه ؛ ومن هنا فإن اصطلاح (التخلف) سيَضعُفْ كثيرًا أمام فكرة تغير الثقافة لا تطورها ؛ وعليه فإن من يهاجم (اليونسكو) التي تهتم بآثار الثقافات القديمة ؛ بحجة أنها تحيي التخلف فإنه يؤمن بتطور الثقافة لا تغيرها ؛ وفي ذهنه أن الحداثة باعتبارها الثقافة الأكثر تأثيرا هي التي ينبغي أن يتقمصها البشر ليتطوروا .
و من هنا نحن إزاء إشكال يظن فيه البعض أن المقصود بالثقافة هو تطورات العلم التجريبي ؛ فالثقافة بحسب طرحي هنا لا تحمل معها العلم التطبيقي ؛ لأن العلم التطبيقي يصدق عليه التطور و استفادة اللاحق من السابق بينما الثقافة بعمومها ليست خاضعة لفكرة التطور بل هي تعمل في مجال التغير فقط .
و هذا التغير يجعل الثقافات في مرحلة متساوية من الرضا بين البشر ؛ فالإنسان الإفريقي يهتم بثقافته و يعتز بها تماما كاعتزاز الأوروبي بثقافته ؛ كما أن الآسيوي أيضا يقدّر ثقافته و يفخر بها ؛ و في مجال التعددية الثقافية التي هي إحدى أطروحات مرحلة مابعد الحداثة الناقضة لفكرة الهامش مقابل المتن ؛ و نزع الطبقية التي أنتجتها مرحلة الحداثة ؛ فإن التعددية الثقافية تعطي كل ثقافة قدرها و تعزز المشاركة بين الثقافات لا على مجال طبقي بل على مجال متساوٍ لا يخضع لفكرة المتن و الهامش ؛ وهذه أحد أهم أطروحات التعددية الثقافية التي أنتجتها مابعد الحداثة . و بالرغم من الإشكالات التي أنتجتها (التعددية الثقافية) كالمهاجرين مثلا ؛ وإشكال السكان الأصليين في الدول قديما ؛ و الأقليات في الدول الحديثة ؛ كل هذه الإشكالات وغيرها عززت من روح القومية في الدول الحديثة؛ و رفض التعددية الثقافية باعتبارها خطرا على قومية الإنسان الثقافية ، و كنقاش لهذه الإشكالات فإن التعددية الثقافية لا تعني تسلط ثقافة مهاجرة على ثقافة أصلية في الدولة بقدر ما تعني منح الحقوق للجميع ؛ وهذا الإشكال مبني على نشأة الدولة القومية الحديثة بشكلها الحالي الذي تلا الإمبراطوريات في العصر القديم .
** **
- صالح بن سالم
@_ssaleh_