د. عبدالحق عزوزي
مازلنا نتحدث عن الملتقى الفكري المهم الذي نظمته المندوبية السعودية لدى اليونسكو احتفاء باليوم العالمي للغة العربية، وقد راع انتباهي التدخل القيم الذي جادت به قريحة الأستاذ البحاثة عباس علي الفحام من دولة العراق، حيث بين للمتدخلين أن للغة العربية عوامل قوة كثيرة مكنتها من البقاء بوجه التحديات التي عصفت بالبلاد الإسلامية من احتلالات متتالية من غير الناطقين بها منذ القرن السابع الهجري وانتهاء بالعصر الحديث، وشكلت هذه العوامل أنساغا حية مدتها بالحياة والبقاء والثبات مثل: الاشتقاق، والمجاز، والتعريب، والإعراب. وتطور اللغات مرتبط بتطور الناطقين بها، لذا على الإنسان العربي تطوير ذاته أولاً لتتطور لغته حتى يفكر بعد ذلك كيف يستثمرها لمنفعته ماديا ومعنويا.
ودائما أقول سيراً على نهج العلامة عباس الجراري والمرحوم عبدالهادي التازي، إن اللغة العربية الفصحى تحتاج، كي تضطلع بدورها في المجتمع، إلى معالجة تبدأ من توسيع متنها، ومن ثم تأهيلها لتكون لغة التعليم في جميع مراحله، فذات المعالجة لواقع العربية تستوجب حمايتها من كل عبث بها وبألفاظها وقواعدها وأساليبها ومسخها بإقحام الدارجة فيها؛ وهذه المعالجة تستوجب الحرص بصرامة على إحلالها المكانة التي تخولها لها القوانين السامية في البلدان العربية، فالعناية باللغة العربية وإحلالها المكانة اللائقة بها لا يعني عدم الاهتمام بتعليم اللغات الأجنبية التي يتحتم تحسين تدريسها من حيث البرامج والمناهج، وقد أشرت في تدخلي في مقر اليونسكو إلى التحصين اللغوي الذي أتى به الدستور المغربي لسنة 2011 وغيرها من القوانين الملزمة التي تساهم في الحفاظ على اللغة...
إن مشكلتنا في الدول العربية، كما تفضل بذلك الأستاذ عباس علي الفحام، تكمن في أن الناس لا يفكرون من خلال لغتهم الفصيحة، بل من خلال ما تعلموه من لغات أجنبية، والحال الواقعي في تراثنا أثبت أن اللغة العربية قادت العالم يوماً ما، وأنتج المتكلمون بها علوماً مختلفة أفادت الإنسانية كثيراً فيما بعد، لأن العلماء كانوا يشحذون عقولهم من خلالها، ويجيلون أفكارهم في بحرها، وبعبارة معاصرة: يستثمرون بها، يعرفون كيف يفجرون طاقتها، فأنتجوا نظريات لغوية مهمة كما الشيخ عبدالقاهر الجرجاني (ت471هـ) عندما أراد فهم الإعجاز القرآني، ووضعوا مصنفات في الطب والفلك والهندسة والرياضيات والكيمياء مما هو مشهور معروف، وكل ذلك كان استثماراً عظيماً للبلدان المتحدثة باللغة العربية والمعتقدة بالدين الواحد، عادت بالنفع العظيم في صنع القرار وفرض الإرادة وتعزيز الرفاه الاقتصادي يومذاك. نعم إن أكثر ما نحتاجه اليوم، كما تفضل باحثنا في تدخله القيم، هو أن يؤمن الإنسان العربي بلغته وعمقها، لكي يتمكن من التفكير بعد ذلك بسبل استثمارها معرفياً واقتصادياً. وحتى الشعر الذي هو ديوان العرب يمكن استثماره اليوم في عالمنا المعاصر كأداة فنية إنسانية تقدم الفن القولي الناعم المشرق، وهو تراث لا تداني مكانته من جهة القدم والجودة أمة من أمم الأرض، أو لغة على هذه المعمورة. وقد أشار إلى أن ضخامة تراثه وسعته وامتداده رسغ مهم يمد اللغة بالحياة ويجددها كلما أخلق الزمن. وظل الخلفاء والأمراء على امتداد التاريخ قادة هذه اللغة يفكرون بها ويحتكمون إلى هذا التراث كلما أشكل عليهم مشكل ما، وهم بذلك يعيدون إنتاجها ويحيون مآثرها، فمما نذكر إشكال الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور على تفسير قوله تعالى {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} بهذه الصورة التخييلية، إذ من عادة العرب تشبيه الموهوم بالمحسوس لا تشبيهه بموهوم آخر، ففسره العالم اللغوي البصري أبوعبيد بجواز ذلك، لشيوع الصورة في أذهان الناس حتى كأنها حاضرة محسوسة مستنداً إلى تراث عربي زاخر بقول الشاعر الجاهلي امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وإن من الأسباب الرئيسة لسيادة لغات أخرى في العالم غير العربية كالإنكليزية والفرنسية هو أن النهضة العلمية الحديثة كانت من نتاج أبناء هذه اللغات من الغربيين... ولكن لا يخفى على كل متتبع حصيف، أن اللغة العربية برهنت على أنها قادرة على الحضور في كل الحالات التي يحتاج فيها الكاتب والفيزيائي وعالم الرياضيات والعلوم الحقة إلى تبليغ رسالته، من غير أن يخل ذلك بمعنى من المعاني ولا بفكرة من الأفكار، فالمسألة مسألة اعتزاز باللغة الأم ومسألة تشاريع وقوانين يجب أن تثبت في القوانين السامية لكل البلدان العربية حماية لها من عبث العابثين وحسد الحقاد.