سعد بن عبدالقادر القويعي
في ظل الجدل القائم حول الإسلام السياسي في تركيا، فإن عنتريات أردوغان تظهر - غالباً - في خطاباته، - خصوصاً - الأخيرة منها، وهي الكلمة التي ألقاها أردوغان - قبل أيام - في برنامج ثقافي بمدينة إسطنبول، عندما حذّر من أنه: «إذا فقدنا القدس، فلن نتمكَّن من حماية المدينة المنورة، وإذا فقدنا المدينة، فلن نستطيع حماية مكة، وإذا سقطت مكة، سنفقد الكعبة» وهذا الكلام لا معنى له، وهو من باب المزايدة، وإلا فإن لمكة المكرمة رباً يحميها، بما لا حاجة إلى تخويفنا بمثل هذا الكلام؛ ولأننا لا نريد أن نعيش حالة انفصام تام عن الواقع، فالرجل يؤكد - دائماً - على الهوية العلمانية لدولته بنص الدستور، وحماية تلك العلمانية من قبل الجيش التركي، ولا مانع - حينئذ - أن تكون مغلفة بعباءة الإسلام، وهو يفتخر بها كثيراً، ويصف نفسه، وحزبه، بأنهم حماة العلمانية في تركيا، بل كثيراً ما يؤكّد على ضرورة الهيمنة على المنطقة العربية، وذلك باستخدامه خطابًا قوميًّا، - بالإضافة - إلى خطابه الديني، وهما العاملان الأساسان في سياسات الشرق الأوسط، والإمبراطورية العثمانية - منذ مطلع القرن التاسع عشر -، بعد أن كانت حاضرة العالم الإسلامي لخمسة قرون، وصاحبة الخلافة فيه.
سأنطلق من منطلقات الاشتباك بين دعاة الدولة الدينية، والدولة العلمانية، والذي كان قائماً - منذ مطلع القرن العشرين وحتى يومنا هذا -، فقد شهدت تركيا بعد نهايات الحرب العالمية الأولى توقيع اتفاق لوزان عام 1923، والذي أفضى لتأسيس الجمهورية التركية، واختيار مصطفى كمال أتاتورك من قبل مجلس الشعب؛ ليكون رئيساً لها، وإلغاء الخلافة العثمانية، ثم تعاقبت العقود؛ حتى شهدنا وصول حزب العدالة، والتنمية الإسلامي للسلطة عام 2002، والتوجه نحو إعادة أسلمة الدولة، والتسويق بأنها دولة إسلامية من الطراز الأول، مع أن الواقع، وباعتراف أردوغان - نفسه -، ووفق المبادئ التأسيسية لحزب العدالة، والتنمية، ومن مشاهدات واقعية للحياة اليومية، ووفقًا لآخر استطلاعات الرأي للشعب التركي، فإن تركيا كانت، ولا تزال علمانية حتى النخاع، وليس هذا فحسب، بل تدافع عن العلمانية، وتروّج لها؛ كونها موالية لقومية أتاتورك، وهو ما تنصّ عليه مبادئ الحزب في القسم الثاني، والرابع منه بوضوح، على ما يلي: يؤمن حزب العدالة، والتنمية بأن أهم مكتسب من وجهة نظر الشعب التركي، هي الجمهورية، وأنّ السيادة تأتي اشتراطًا مع الوطن، كما يؤمن حزب العدالة، والتنمية بالقرارات العامّة السابقة؛ بهدف الوصول إلى الحضارة الحديثة، والتي تمّ وصفها من طرف مصطفى كمال أتاتورك - مؤسس الجمهورية -، من خلال الحفاظ على قيمنا التاريخية، - وبالتالي - فإن حزب العدالة، والتنمية، هو حزبٌ سياسي، يعتبر الإنسان مركزه، ويؤمن بأن خدمة الناس، هو أقصى نوع سام من الخدمة.
التفكير الأمريكي في دعم الإسلام الليبرالي في المنطقة، لم يكن أمامه إلا أن يدعم الإسلاميين في تركيا، - وخصوصاً - أن ملامحه ظهرت بعد ما سُمى بثورات الربيع العربي عام 2001، بل إنني أتذكر جيداً، أنه في 30-1-2004، نشرت صحيفة «يني شفق» التركية - القريبة من أوساط الحركة الإسلامية التركية - خبراً مفاده، أن - الرئيس الأمريكي - جورج بوش عرض على - رئيس الوزراء التركي - رجب طيب أردوغان، خلال استقباله في البيت الأبيض يوم 28 -1-2004، معالم المشروع الأمريكي الجديد للشرق الأوسط الكبير، والذي يمتد من المغرب حتى إندونيسيا، مروراً بجنوب آسيا، وآسيا الوسطى، والقوقاز. وحسب ما جاء في الصحيفة؛ فإن المشروع طبقاً لما عرضه الرئيس الأمريكي، جعل من تركيا عموداً فقرياً، حيث تريد واشنطن منها، أن تقوم بدور محوري فيه، وتتولى الترويج لنموذجها الديمقراطي، واعتدالها الديني، لدرجة أن الرئيس الأمريكي اقترح أن تبادر تركيا إلى إرسال وعاظ، وأئمة إلى مختلف أنحاء العالم الإسلامي؛ لكي يتولوا التبشير بنموذج الاعتدال المطبّق في بلادهم، باعتبار أن هذا النموذج، هو الأصلح للتطبيق في العالم الإسلامي، ومن ثم الأجدر بالتعميم لأسباب ثلاثة:
أولها: أنه ملتزم بالعلمانية التي تهمش دور الدين إلى حدّ كبير، بل تعارض أي دور للدين في الحياة العامة.
السبب الثاني: أن تركيا تعتبر نفسها جزءاً من الغرب، وموالاتها للولايات المتحدة ثابتة، ولا شبهة فيها، ومن ثم فهي تعد جزءاً من العائلة الغربية، وتحتفظ مع العالم الإسلامي بعلاقات شكلية.
السبب الثالث: أن تركيا لها علاقاتها الوثيقة مع إسرائيل، وهو الأمر الذي يلقى ترحيباً، وتشجيعاً كبيرين من جانب واشنطن، ودول الاتحاد الأوروبي.
- وبالتالي - فكل هذه العوامل دفعت بالنموذج التركي نحو خيار الحوار مع الإسلاميين المعتدلين في المنطقة إلى المقدمة، باعتبار أن نموذج حزب العدالة، والتنمية التركي بزعامة رجب طيب أردوغان في طبعته العربية، هو ما تحلم به الإدارة الأمريكية؛ لتسييده في المنطقة؛ الأمر الذي يشير بوضوح إلى أن هذه المنطقة، هي المستهدفة في مخططات الإخضاع، وبسط الهيمنة.
إزاء ذلك التحليل، فإن - الباحث - محمد بن عبد الله المقدي يبرهن بعد أن ظهر جلياً، أن من أهم أهداف الخطة الأمريكية المسماة بمشروع الشرق الأوسط الكبير، هو محاربة التيارات الإسلامية التي تتصدى للعدوان الأمريكي، تحت شعار: «محاربة الإرهاب». ويرى المروِّجون لهذا المشروع، أن القوة المادية أعسكرية كانت، أم اقتصادية، لا تكفي لهدم فكرة، وبناء أخرى؛ فلا بد إذن من تيار إسلامي معارض لتلك التيارات، ومنسجم مع الرؤية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط، ومستشهداً بما أعده «برنارد لويس»، من أن تفاقم تأثير الحركات الأصولية الدينية - في أواخر السبعينيات والثمانينيات -، قضى نهائياً على أفكار غربيين، كانوا يعتقدون أن «التصوف الإسلامي السياسي»، يحُدُّ من تأثير الإسلام السياسي؛ فمقاومة السلطة السياسية من ملوك، وأباطرة، وفراعنة، كما يؤكّد «دانيال بايبس» وجد له الأصوليون تفسيراً في القانون الإسلامي؛ - ولذا - فإن الغرب يسعى إلى مصالحة التصوف الإسلامي، ودعمه؛ لكي يستطيع ملء الساحة - الدينية والسياسية -، وفق ضوابط فصل الدين عن الحياة، وإقصائه نهائياً عن قضايا - السياسة والاقتصاد -، وبالطريقة - نفسها - التي استُخدمت في تهميش المسيحية في أوروبا، والولايات المتحدة.
من جانب آخر، فإن أردوغان هو الوحيد غير اليهودي الذي حصل على «وسام الشجاعة» في المؤتمر اليهودي الأمريكي 2004 ؛ تقديراً لجهوده في دعم إسرائيل، وهو ما أكده المسؤول عن المؤتمر اليهودي أثناء تقديم الوسام إلى أردوغان، بأن هذا الوسام ليس - فقط - تقديراً للخدمات التي قام بها أردوغان لأميركا، بل - أيضاً - يعد تقديراً للخدمات التي قام بها لدولة إسرائيل، وموقفه الطيب حيال المجتمع اليهودي في العالم، - إضافة - إلى توقيعه اتفاقات عسكرية تربط تركيا، وبشكل خاص الجيش التركي بإسرائيل، ومنظومة أسلحتها بشكل كبير، ووضع أجهزة إنذار مبكرة إسرائيلية في قاعدة ملاطيا، ترتبط بالقبة الحديدية الإسرائيلية التي تستهدف صواريخ المقاومة الفلسطينية، وهي اتفاقيات أثارت شكوكاً - برلمانية وشعبية - في طبيعة العلاقة - الإسرائيلية التركية - التي أدارها أردوغان، ولا يجد تبريراً لتغيير موقفه، سوى أن تركيا في حاجة إلى إسرائيل . فعلى مدار تلك السنوات، كانت المصلحة هي الركيزة الأساسية لهذه العلاقات المشبوهة.
عطفاً على هذا المنظور الأردوغاني للعلمانية، إذ تؤكّد على أن حقيقة أردوغان، وحزب العدالة، والتنمية، أنهم يؤمنون بالعلمانية، وليس بالإسلام كنظام حكم، وكما يقول - الأستاذ - فاروق الدويس، فإسلامهم إسلام - صوفي درويشي -، ومن السذاجة، والجهل بأبجديات الدين الإسلامي، اعتبار فتح تركيا مجالاً من الحرية لممارسة بعض الشعائر الإسلامية، كلباس الحجاب، وبناء المساجد، مقياساً للإيمان بالإسلام كنظام حكم، واجب الاتباع، والتنفيذ. - وفي المقابل - يجب ألا ننسى أن السياسة التركية الجديدة تجاه المنطقة، لا تنطلق من خيارات عاطفية، أو شخصية، بل هي سياسة براغماتية، تخدم مصالح تركيا العليا، وتعمل على تعزيز أدوارها - الإقليمية والدولية -، وذلك ضمن الأطر التي رسمتها السياسة التركية الهادئة، والتي يقودها أردوغان.