أ.د.عثمان بن صالح العامر
أعتقد أننا إلى الآن لم نصل لآلية دقيقة وصحيحة في تقويم طلابنا وإصدار الحكم عليهم بالنجاح أو الرسوب، بالتفوق أو الإخفاق، ليس لأن شريحة من المعلمين في مدارس التعليم العام، والأكاديميين في الجامعات لا يجيدون فن صياغة الأسئلة والتدرج فيها فحسب، بل لأن فكرة الامتحان الذي يجرى ليس هو المقياس الحقيقي لقدرات وكفاءة هذا الطالب أو تلك الطالبة، فضلاً عن غياب المشاركة الأسرية والذاتية حين التقويم، ولذلك فهو في نظري تقويم ناقص ومعزول عما هو واجب من إيجاد شخصية متكاملة لا تقتصر على كم المعلومات التي تحفظها ثم تضعها في كراسة الامتحان، بل تتجاوزها إلى منظومة من القيم الخاصة التي تتطور تدريجياً مع تقدم الطالب في حياته الدراسية.
أذكر أنني كتبت هنا وفي أكثر من مناسبة عن تجارب بعض الدول في التقويم، وسُقت من بين ما استشهدت به تجربة رأيتها بنفسي في مدارس التعليم الإلزامي بفنلندا التي يشار لها بالبنان حين الحديث عن التكوين العلمي والتربوي للصغار، ذلك أنهم أصلا ينطلقون من أن هذا الطالب هو في حقيقته ثروة وطنية يجب أن يولى الاهتمام والرعاية الفعلية منذ ميلاده، وليس لأبويه أن يستقلا في تربيته وتعليمه بعيداً عن متابعة الدولة التي هي في النهاية من سيجني ثمرة نجاحه وتميزه، إذ إن هذه الدولة الصغيرة ذات الظروف المناخية الصعبة راهنت بعد خروجها من حرب الاستقلال على العقل رغبة في البقاء بعيداً عن الصراع الدموي الذي لازمها تاريخاً طويلا، وحتى تتم الاستفادة الحقيقية من عقول أبناء الفنلنديين توصلوا إلى أنه لازماً على المدارس أن تبني الشخصية الناقدة، فكان الطالب مشاركاً في تقويم ذاته منذ الصف الأول الإلزامي، ومن ضمن منظومة المقيّمين الوالدان والمشرف الاجتماعي في المدرسة وكذا المرشد النفسي، ولذا متى كانت لدى الطالب مشكلة نفسية أو اجتماعية يتم اكتشافها في وقت مبكّر جداً، ومن ثم يكون العلاج الذي يقيه تبعات هذا المرض الذي يكبر معه كلما تقدم به العمر.
إننا بحاجة إلى إعادة النظر في تقويم طلابنا على ضوء رؤية شمولية لبناء الشخصية المتكاملة دون التركيز فقط على الكم المعرفي الذي من اليسر الآن الحصول عليه من خلال مواقع الإنترنت التي بين أيدينا، ومن السهل - كما هو معروف - الوصول إلى هذه المعلومات التي يتلقاها الطالب في الفصل أو القاعة الدراسية من قبل جميع الفئات السنية بل ربما كان الصغار يتقنون التعامل مع التقنية أفضل بكثير من الكبار.
قد يظن البعض أن هذا طرح مثالي ينتظم ضمن مفردات فلسفة المدينة الفاضلة ومن الصعوبة بمكان تطبيقه، وهذه النظرة الإقصائية لهذا الطرح المغاير غير صحيحة وليست واقعية، بل إن فيها من السلبية ما يجعل الاعتقاد المتوارث بأنه ليس بالإمكان أحسن مما كان هو سيد الموقف في ظل اعتبار أن الألفُ غطاء ثقيل على عقول المنظّرين والمخططين لتعليمنا العام والجامعي على حد سواء.
لقد ولد التقويم المتبع لدينا للطالب والطالبة على حد سواء مثالب وعيوب في الشخصية لا عد لها ولا حصر، ولعل من بينها أننا أصبحنا نجيد ممارسة النقد على غيرنا، ولا يمكن أن ننقد أنفسنا؛ لأن كل واحد منا يعتقد في قرارة نفسه أنه فوق النقد وعصي على الخطأ، وتولد عن هذا المثلب القاتل داء عضال آخر ألا وهو أننا صرنا نتهم الآخرين أنهم هم سبب فشلنا وضعفنا وتدني مستوانا التعليمي وسر إخفاقنا في الحياة، وندعو عليهم ونوصي غيرنا بأن يشاركنا في هذه المهمة الظالمة للأسف الشديد، فالأستاذ هو من رسبني ولست من السوء إلى هذه الدرجة التي تجعلني فاشلاً في تعليمي، وإذا لم نجد شماعة نعلق عليها أخطاءنا ندبنا الحظ أو نسبنا هذا الأمر للعين التي هي حق، ولكن ليس بهذا الشكل الفج الذي يجعلنا نعتقد أنها تتراقص لنا في كل منعطف من معطيات حياتنا.
وفق الله أبناءنا وبناتنا في امتحاناتهم، وسددهم في إجاباتهم، وإلى لقاء والسلام.