د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
* ليس الأهمُّ ما نقول بل ما لا نقول، ولا ما نعلن بل ما نُسرّ، ولا ما يراه الآخرون فينا بل ما نراه نحن بأنفسِنا، كما ليس الأبرزُ في مَداراتنا هدوءَها بل عواصفها، وغيومها لا شموسها، وانكسارها دون انتصارها، وهو الذي يصنع الفوارق بين أحكامنا على سوانا وأحكام سوانا علينا، وبين رؤانا الحقيقية التي لا يصادرها صوتٌ أو صيتٌ وبين ما يريده الأعلى أو الأغلى أو المتاح والمباح، ولكن: هل بقي في أشيائنا ما يمكن أن يُخفى، ألم نُخترق حتى عظامنا؟! أثَمَّ مجالٌ لمن شاء اكتشافًا؟! وهل بقي في أرديتنا ما يستر سوءاتها؟!
* توشك الإجابة أن تجيء: لا؛ إذ لم يعد مكانٌ لأسرارٍ أو أسوارٍ؛ فنحن من اخترقها مختارًا أو أذن بنشرها مختالًا؛ ففينا من يبحث عن نفسه كي يرى علائم الرضا فالإعجاب فالترميز فالتبجيل ثم ما فوقها كي يبلغ مكانًا يقتعده أو يصنع مكانةً يزهو بها، وفينا من يضيف إلى نفيسه غير عابئٍ بهالات الانتشار ولا بصدمات العثار؛ يسير كما يشاء لا كما تقوده تموجات الأحياء وتعرجات الحياة.
بين المضمر والمعلن تمتد الأقنعة وتنحسر، ويزداد الضجيج ويخبو، وتعلو الجرأة ويسود التردد، وتتعدد المحاكمات ويتحكم التبرير والتشهير والإعراض والتغرير، ويفاجئك بعض من قال بتبرُّئِه مما قال، ومن لم يفعل بدفاعه عمّن فعل، وتختلط المعايير، وتكبر الحكايات، ونعيش رواياتٍ لم نشهدها، ونكتب نصوصًا لا نعيها، ونعيش زمنًا لا يشبهنا ومع أناسٍ لا نشبههم.
* استطاع بعضنا التأقلم مع هذه الأجواء؛ فتنفس هواءها وارتضى أهواءها دون أن يدرك تأثيرها السلبي على تكوينه النفسي والبدني وعلى مواقفه السلوكية ومواقعه المبدئية، وقد نلوم من اختلت عوامل التوازن في داخله أو خارجه لانضوائه تحت مجاميع لا يحبها فكيف يألفها ثم يعرفها وفي الناتج يُدمنها؟!
* وربما لُمنا أنفسنا حين نسير في طريق تسكنه إشاراتُ سوانا وإثاراتُهم؛ فننتمي دون انتماء، ونساير الركب بارتماء، ونتساءل - من قبلُ ومن بعد - من نحن؟ و: من هم؟ ولعله الاستفهام الأقسى حين لا نعرف الإجابة؛ مستمتعين بالركض المتصل نحو شمسٍ لا تفيء وظلالٍ لا تُضاء ولا تضيء.
* معظمنا بحاجة إلى عزلة اختيارية ذات لونٍ لا يتماهى مع نفسيةٍ بائسةٍ أو يائسة بل بإرادةٍ منفتحةٍ واعيةٍ لا تنفصل بمقدار ما تتصل كي ندرك ذواتَنا دون رقيبٍ نخشاه أو جمهور نتملقه أو قطيع نتبعه، وسنكتشف أن للهواء رائحةً لا يخالطها الغبار، وأن للماء مذاقًا لا يشوبه الكدار، وأن لنا شخصياتٍ عصيةً على البرمجة، وأن من لا نراهم ولا نقرأُهم ولا نستمع إليهم أجدر بوقتنا وصحتنا وأجدى.
* التبرمجُ أغلال.