د. محمد عبدالله الخازم
كنت محظوظاً بالاطلاع مبكراً على «المسطر»، الرواية المكملة لثلاثية الجهراء وفي كل مرة أحاول الكتابة عن تميزها يخونني التركيز وحالتي المزاجية. هناك إلحاح داخلي بأهمية البدء بالكتابة عن مؤلفها المبدع ناصر الظفيري قبل بطلها (ضيدان). الكتابة عن صديقي الملهم ليست سهلة، لأن المشاعر فيها طاغية، فليعذرني القارئ مقدماً على ارتباك التعبير.
عام 2017م حمل لنا الخبر السيء عن إصابة النبيل، ناصر الظفيري، بمرض السرطان. جاء المرض ليتحدى إرادته المعروفة بالقوة والثبات، وهو لا يعلم كم من صعاب تحداها ناصر قبل ذلك. في البداية هاجم القولون، ثم بعد عملية وعلاج كيماوي، انتقل للكبد، ثم علاج كيماوي وبعدها أشار الطبيب إلى انتشاره في أماكن أخرى وعليه مواصلة العلاجات: الكيماوي والإشعاعي والدوائي. كلما تحداه في موقع عاد له في موقع آخر، وفي كل مرة ينتصر ناصر، وسينتصر على ما تبقى منه. سلاحه الأول القلم؛ يكتب وسط معاناته مع المرض غير آبه بجلسات العلاج ومشاوير العيادات. يكتب، يد مغروز فيها جهاز المحلول الكيميائي ويد أخرى تعاني الألم وصعوبة الحركة بعد إصابة كتفها بالداء اللعين.
تعود تحدي الظروف بالعمل والمثابرة والمغامرة. من مهندس يعمل بالجيش الكويتي ويحلم بهوية بلد ينتمي إليه، إلى مهاجر يبحث عن وطن لم يغادره يوماً. يقوده شغفه لدراسة الأدب في إحدى الجامعات الكندية المرموقة. يسعى خلف لقمة العيش فيسترق اللحظات بعد الدوام ووسط اهتمامات العائلة والأطفال ليكتب رواية أو مقالة أو قراءة أدبية هنا أو هناك. وكم هي القرارات المصيرية والصعبة التي نتخيلها في ثنايا هذه المحطات!
جوائزنا الثقافية ظالمة ونقادنا كسالى وإعلامنا منحازٌ في التعريف بكنوز ناصر الأدبية. هو لا يحب تسويق ذاته، وقد سألته: سيرتك بذاتها تصلح رواية، فلم لا تكتبها يا أبا بدر، من صهد الرمال إلى صقيع الثلج؟ فأجاب: أنا أكتب قضيتي أما سيرتي الشخصية فما قيمتها أمام سيرة أولئك المهمشين الذين لم يحظوا بما وفقت إليه من فرص لي ولعائلتي. هو لا يكتب مجرد حكاية، بل رسالة سامية. نذر نفسه لقضية يوثقها للتاريخ بطريقته، لم تسرقه الراحة في بلد الهجرة ولم تغلبه وطأة المرض وصعوبات الحياة. رغم كل مميزات الهجرة وعناية وطنه الحالي -كندا- بمتطلباته وأسرته الأساسية، يبقى الوفي المحب الولهان لوطنه الأول، حتى أنني ألقبه مازحاً بالصديق البدوي الكندي، الذي لم تستطع كندا أن تنسيه الجهراء وحكاياته البدوية الجميلة.
أعلم يا صديقي ناصر، أنك تعمل على مشاريع أخرى، لأن سلاحك ضد هذا اللعين -المرض- هو الكتابة ثم الكتابة. نحن دائماً بانتظار الإبداع الجميل منك، رغم أننا لم نف أعمالك حقها من القراءة بعد؛ الصهد، كاليسكا، المسطر، أبيض يتوحش، سماء مقلوبة، غرار وغيرها من الروائع التي أبنت فيها بوح روحك وإبداع فكرك ورشاقة قلمك. لا تقلق فهي وثائق للتاريخ وليست مجرد أعمال عابرة، سيأتي من يقرأها اليوم أو غداً...
لا أعاد الله لك مشقة 2017م، أخي ناصر، وفرج عنك في قادم الأيام ألم المرض وأوجاعه.