عبدالوهاب الفايز
أيام اختناقات الخدمات، بالذات الحصول على هاتف منزلي والذي كان حلماً كبيراً للكثير من الناس.. كان العاملون في الهاتف السعودي يحضون بوضع اجتماعي متميز، وأذكر أن أحد رسامي الكاريكاتير استوحى فكرة تعبر عن تلك المرحلة، فقد رسم شخص مُكلّف بالسؤال عن شاب متقدم لخطبة، وبعد التحري جاء للأب مبشراً ليقول: (سألنا عنه ويشتغل بالهاتف!) وطبعاً هذه وضعية اجتماعية تعني النفوذ والوجاهة وإدارة المصالح.
طبعاً نجاحنا في مشروع تخصيص الاتصالات قلب المعادلة لصالح المواطن، والآن نحن نفخر بتميز خدمات القطاع وبتميز شبابنا في قطاع الاتصالات، كقيادات ومهنيين ورواد أعمال، فخدمات القطاع تطاردنا وتحاصرنا وتزوجنا، (هذه الكلمة الأخيرة من المدقق الإملائي فأردت القول: وتزعجنا، ولكن جاء بهذه الخدمة، وكانها تستشرف واقع شركات الاتصالات مستقبلاً إذ سوف تبحث بشدة عن العملاء إذا لم تطور خدماتها وتنتقل لتقديم المحتوى..!).
هل نتمنى اختفاء البلديات؟.. نعم، إنه الاختفاء الإيجابي الذي يعني ارتفاع الكفاءة الإنتاجيه، وبالتالي اختفاء معاناة الناس من مطاردة احتياجاتهم في البلديات، وانتهاء حالة المراجعات العبثية المرهقة، وحتى لا نبخس الناس حقوقهم، البلديات بدأت مرحلة هامة للتحول، فالخدمات الرقمية تتوسع والإجراءات والمتطلبات تتم مراجعتها واختصارها، ومهمة التطوير والإصلاح لن تكون سهلة في قطاع مثقل بالبيروقراطية العنيفة المعيقة، وكان مقيداً بنظم مالية وإدارية حكومية، وأيضا ليس لديه الصلاحية الكاملة لإدارة الخدمات في المدن.
وأيضاً المدن الكبرى تعاني من استمرار ارتفاع عدد السكان، ولهذا تبعاته على إدارة الخدمات وارتفاع الازدحام المروري وزيادة التلوث، وتوسع الطلب على السكن الشعبي ونمو الأحياء العشوائية. إن التحديات تتسع وهو الذي يجعلنا نتمنى تمكين البلديات في المدن للتحول إلى الإدارة عبر الشركات المتخصصة التي تقدم الخدمات بالمرونة والسرعة. وفِي هذا فرصة لتوليد الوظائف والتجارة، وأيضاً فرصة لتنظيم ودعم عمل المشروعات الصغيرة والمتوسطة داخل المدن، أي تتحول البلديات إلى ممكن لتنمية المشروعات التجارية، وليس عائقاً أمامها كما هو الآن وسابقاً.
إدارة المدن بالآليات والطرق الحالية لن تورثنا سوى مدن تعاني من التراجع في الخدمات، مدن ومحافظات لا تليق بِنَا ولا بتطلعاتنا لمستقبل يوفر المتطلبات الأساسية للحياة الكريمة، أي مدن غير إنسانية. تعدد مصادر التلوث البصري في البيئة العمرانية يسبب الاكتئاب وارتفاع التوتر نتيجة انفصال الإنسان عن المكان وفقدان الانتماء، وهذا له انعكاسه على (مستوى الرَضى الوطني). ومصادر التلوث البصري في مدننا تتعد منها تواجد مخلفات البناء، السيارات التالفة، غياب الأرصفة التي تحترم حقوق الإنسان، الطابع المعماري المشوه غير المتناسق للمباني، غياب التشجير، غياب الحدائق، إهمال الاحتياج لمواقف السيارات، كثرة الحفر والمطبات في الشوارع.. وغيرها من الملوثات.
في السنوات الماضية شهدت المدن العديد من التوسع في مشروعات البنية الأساسية، كما توسعت مشروعات القطاع الخاص الكبرى، والعاصمة الرياض تشهد الآن إنشاء العديد من الأسواق استجابة للتوسع في الحاجة للترفيه، وهذه النقلات النوعية في الاستثمار لن نجني عوائدها الاستثمارية الكبرى إذا بقينا على طرقنا البسيطة المتواضعة لإدارة اقتصاديات المدن، ولن نجني العائد على الاستثمار.
ربما نجدها فرصة الآن بعد إدخال الضرائب والتوسع في فرض الرسوم البلدية والمرورية، لنكرر الدعوة هنا: الآن الحكومة لديها فرصة لتعكس الأوضاع في المدن عبر إحداث تغيير نوعي ينعكس إيجابياً على الرَضى الوطني، والمدن هي ساحة التفاعل اليومي لحياة الناس، فالذي ينام في بيته مستقراً مرتاحاً، يفقد راحة النفس والنظرة الإيجابية للحياة بعد دقائق من خروجه من البيت، بسبب منغصات ومفاجآت الطريق من التهور في القيادة ومن الحفر في الشوارع، ومن انعدام العدالة في استخدام الطريق، (فقد فاز من كان جريئاً!).
المدن تقدم فرصة لتحقيق المكتسبات السريعة الإيجابية لرؤية المملكة ولبرنامج التحول، فالإيرادات المحققة من حزمة الرسوم الجديدة، وحتى (يتحقق البعد التنموي) الذي تستهدفه الحكومة للمدى البعيد، من الضروري أن يرى الناس أهدافاً سريعة تتحقق عبر تحسن سريع في الخدمات المقدمة في المدن، وهذا يعزز موقف القطاع البلدي ويهيئ الفرصة لتحوله إلى إدارة المدن عبر اليات جديدة تمكنه لأن يتصدى لتحديات التنمية المستدامة التي تعاني منها مدننا. وهكذا يختفي القطاع كرموز ومؤسسات لتكون الخدمات هي سيدة الموقف.. وهي الثمن الإيجابي والنجم، والأهم يحدث التغير النفسي الإيجابي الذي تتطلبه إدارة التغيير لبرنامج التحول الذي غفلنا عن أهميتها مع الأسف، حتى نستوعب المقاومة للتغيير.