د.فوزية أبو خالد
-1-
في اللحظات الأخيرة
ما أشهى أن تقودك صدفة الوقت ليس إلا إلى أن تفتتح سنة جديدة بصفحة بيضاء تتلألأعلى شاشة الكمبيوتر لم تمسها أنفاس من قبل، ولم تخط على لوحة مفاتيحها كلمة بعد.
وهذا ما يحدث معي في هذه اللحظة، فمع تسارع عقارب ساعة اليوم الأخير من العام 2017م الذي كان حافلا بشجن النهايات، مكللا بثلوج شتاء نيويورك، مشغولا بالمواعيد وبصخب الطلاب والصديقات وبالحنين للوطن وإن كان سفرا عابرا, وبرنة رسائل «الواتس اب» وبضجيج الأخبار وتضاربها، وجدت نفسي وجها لوجه أمام وداع العام، ولم أستطع أن أقتطف أو أختطف مما تبقى من أنفاسه لحظة أخيرة أتوقف فيها لكتابة مقال الجزيرة الأسبوعي.
يا إلهي أضواء الألعاب النارية تشعل السماء أمامي ولم أكتب حرفا من المقال بعد .. أحس بأنني لو اقتربت من زجاج النافذة فسألمس البريق الأخاذ أو ستتخطفني أمواج الضوء إلى مجهول. أكاد أسمع أصوات العد التنازلي تصلني من «التايمز سكوير» معلنة عن رحيل عام مضى وولادة عام أطل ولازالت أقداره في علم الغيب .
أكاد أحس في دفء فندقي الأنفاس المثلجة لتلك الأعداد المتنوعة الغفيرة من البشر التي لم يثنها الصقيع من الخروج إلى تلك الساحة الشهيرة لكتابة لحظة هاربة إلى الأبد من أعمارهم، بحبراللحظة المقبلة من عام جديد، فلا يبقى لي من خيار إلا المشاركة في الكتابة بالقطفة الأولى من الساعة الأولى للعام 2018م.
على أننا، وإن غمسنا أقلامنا في نفس بحيرة الحبر الفوارة للتو, فكل منا يكتب في البداية والنهاية قصته الخاصة التي لن تشبه قصة أخرى. في هذا الجو الزمهريري البعض يرشق الحبر للأعلى ويلتقطه شظايا زجاجية حادة يكتب بها بداية العام، والبعض يمزجه بالقهوة الساخنة أو الكاكو الحار ويكتب بالرائحة اللاذعة بداية تنقض ماكتب بشظايا الزجاج، البعض يكتب العام الجديد بالدم والدموع في أماكن مختلفة من العالم والبعض يكتبها بقلم اسمه الأمل.
-2-
في اللحظات الأولى
صحيح، أنني لهذه اللحظات الأولى من بداية العام 2018م لم أٌبين أو بالأحرى لم أتبين ما الذي يمكن أن أكتبه بالدفقة الأولى من ديمة العام الجديد، ولكني على الأقل أعلم أنني أكتب بقلم يجتمع فيه وله مجد الأمل والتساؤل وأمانة الكلمة على مطلع عام جديد.
-3-
الكتابة بقلم التساؤل والأمل
في مثل هذه الليلة قبل مايقترب من عشرين عاماً كنت أعيش في شتاء مانشستر الهادئ بالمقارنة لعنف شتاء الساحل الأمريكي الشرقي، وكنت أعكف على وضع اللمسات الأخيرة على أطروحة الدكتوراه التي كان موضوعها (البحث في موقع النساء داخل الخطاب السياسي السعودي من خلال دراسة ذلك الخطاب وتحليل طبيعة العلاقات الرأسية والأفقية للسلطة بالقوى الاجتماعية). أما المفارقة فإنني، وإن لازلت بعض مضي هذا العدد المديد من الأعوام مفعمة بالأسئلة إلا أن ماكان يبدو أجوبة ليست صعبة المنال حينها تحول إلى حالة تقتضي تجديد الأسئلة وتتطلب البحث عن أجوبة جديدة.
لقد ظل الواقع السعودي دولة ومجتمعا وقوى اجتماعية ومسار تحولات يشكل حالة محددة من التوقعات في عملية الاستقرار والتغير معا. بما بدت معه حتى اللحظات المفصلية في المواجهات مثل لحظة مواجهة احتلال الحرم المكي الشريف من قبل القوى الإرهابية المتشددة بقيادة جهيمان، ولحظة مواجهة محاولة النظام الإيراني الطائفي تصدير ثورته للسعودية، ولحظة حرب الخليج الثانية على عتوها إثر احتلال نظام صدام للكويت واستقبال القوى الغربية العسكرية وعلى رأسها أمريكا على أراضي المملكة, لحظات على تأزمها قابلت للإحتواء و بالتالي للفهم ضمن معادلة ثبات الحراك السعودي على إيقاع عالي الإنظباط في التوازن بين التغير والإستقرار. وقد خضع لتلك المعادلة بإيقاعها الثقيل البطيء حتى مخرجات الخطط الخمسية للتنمية ومخرجات التعليم وتربية عدة أجيال جديدة عبر عدة عقود على ذلك الإيقاع.
وإن كان الزمن قد قسم في الكثير من التحليلات، بل ومؤخرا في الخطاب الرسمي أيضا إلى زمن أو مرحلة ماقبل الصحوة وزمن أو مرحلة الصحوة، إلا أنه لم يكتب بعد بما يكفي أو بما يستطلع تحليليا زمن أو مرحلة مابعد الصحوة أو ما يمكن أن تكون عليه ملامح هذه المرحلة. ولا أدري: هل يرجع ذلك لأن البعض يرى أننا لم نصل بعد لمرحلة ما يمكن أن يسمى بمرحلة ما بعد الصحوة أو لأسباب أخرى تتعدد. ولكن من المؤكد للمتابع أو على الأقل لي ثلاث نقاط :
النقطة الأولى، أن مرحلة الصحوة نفسها لم تقرأ تحليليا إلا نادرا بينما شاع عنها قراءات انطباعية يغلب عليها الطابع الإعلامي على الطابع البحثي الأكاديمي التساؤلي, كما يغلب على ذلك الميل لإلقاء التبعات على طرف دون تحديد مسؤولية كل الأطراف ومن هي وماهي أدوارها فيما حدث بما فيه الدور الرسمي. وبما فيه الكشف عن التفاصيل أو على الأقل بحثها، وعدم الإكتفاء بالعموميات لمعرفة ماهي الصحوة وماهي مكوناتها ومكونيها وأهدافها ووظائفها وتوظيفاتها التي جرت الخ...
النقطة الثانية، أن مرحلة مابعد الصحوة إن كنا حقا قد وصلنا إلى مرحلة مايمكن تسميته بمرحلة مابعد الصحوة بمعنى نقدها وتصحيحها والقطيعة معها على مستوى فكري وميداني وليس على مستوى تحولها أو تحويلها لحالة كامنة كتقية للنقمة الرسمية والإعلامية, لم يتصدى لها أيضا تحليل علمي عقلاني نقدي بعد يقول لنا أو على الأقل يشير إلى بوصلة أين موقعنا الآن، وهل نحن في وارد تجاوز ماسميناه بمرحلة الصحوة موضوعيا وذاتيا أو أننا نكتفي بإخضاع رموزها وخطابها للتخفي أو الاختفاء وحسب.
النقطة الثالثة, وهي النقطة الأخيرة، وإن كانت هي النقطة التي بدأت بها هذا الجزء من المقال وهي بوادر خروج الواقع السعودي من مطلع الألفية الثالثة التدريجي على تلك المعادلة المحسوبة بين الاستقرار والتغير. غير أن الملاحظ اليوم أن تلك المعادلة بأعمدتها السياسية التقليدية التي قادت المملكة في الصحو والعواصف وفي الحراك التنموي المحسوب لعدة عقود بذلك الإيقاع الثقيل والبطيء بين عمليتي الاستقرار والتغير والذي أعطى المملكة بخلطة توازناتها من معطيات السياسي والديني والقيمي والاجتماعي، بل والقبلي والمناطقي ذلك الطابع المحافظ دولة ومجتمعا تجري اليوم إنزياحات واسعة عنها وربما بسرعة غير معتادة.
وإذا كان التحول من سمات المجتمعات الحية على عكس تلك الواقعة بين السبات وبين الموات فإن القلق ليس في التحولات بحد ذاتها ولا في سرعتها بالضرورة، بل في درجة استيعاب المجتمع لها بكل قواه الاجتماعية على مختلف مواقعها ومشاربها وفي درجة مشاركتها عبر تلك القوى فيها. وهذا ما يجعلنا نقول هنا أيضا إن التحولات بحاجة لتحليل علمي نقدي يقف على مسافة موضوعية من كافة مروحة الطيف الفكري والسياسي والاجتماعي للمجتمع لايتورط في التحالفات المخلة مع أحدها على حساب الآخر، ولا يرضى تهويل المخاطر ولاتهوين المواجهات بل يقول كلمة حق يراد بها حق وحياة لهذا الوطن؛ ليكون دائما وأبدا عزيزا متلاحما لبناء دولة عصرية ومجتمع مدني في علاقة حضارية متكافئة.
وهذا له أكثر من شرط من شروط التحول الجذري على طريق آهل بالجميع وغير استحواذي، ومنهما شرط حرية الفكر والنقد الموضوعي والتحليل العلمي، وإتاحته قانونيا ومساندته مؤسسيا وماليا وشرط حرية التعبير والنشر والمصارحة.
وليس أخيرا...سنة مفعمة بالحق والعدل والكرامة الحرية لوطننا ولكافة الأوطان.
ولانتفاضة الشعب الإيراني في الأطراف المهمشة والمدن المطهمة تحية لشجاعتها وسلام... رافعين لهم أيدينا بعلامة التضامن والنصر.