د. حسن بن فهد الهويمل
بعض فقهاء القنوات، وسُرَّاق الأضواء يختلفون في قدراتهم، ونواياهم. والجمع بينهم من خوارق المصداقية. لأن فيهم المتبحِّرَ في فنه، الناصحَ في قوله، الصادق في سعيه. وفيهم دون ذلك.
والصادقون الناصحون حين لا ينقصهم العلم، يفقد البعض منهم الرزانة، وبُعد النظر، وتوقي صيحة العامة، وإزلاق الأبصار. ومن ثم يقع في الهلكة، وهو يبغي النجاة.
وكم من عالم مُفَوَّهٍ، تَقِيٍّ، نَقِيٍّ، مُؤَثِّر، استزله المتربصون، أو المريدون المتحمسون فأفرغوه من كُلِّ محتوياته الحميدة.
وفي كل عصر مَسَائِله الشَّائكة، التي يتخذها شرار الخلق أحبولة لمن كان لهم أثر في الدعوة إلى الله.
في القرن الثالث كانت مسألة [خلق القرآن] مِصْيَدةً للعلماء الوافدين على الحواضر الإسلامية للتعليم.
فإذا قدم العالم للدرس وجلس بدهه المغرض بسؤال:-
- هل لفظنا بالقرآن مخلوق؟
- هل الأحبارُ المتبديةُ على الرِّق مخلوقة؟
ومثله الأسئلة عن [الاستواء]، و[القدر]، و[الأسماء، والصفات]. وفي كل عصر شراره، ومغرضوه. والعلماء بين:
عالم لم يكتمل عقله، وعاقل لم يكتمل علمه.
وتقي، نقي مأخوذ بغفلة المؤمن.
ونفعي، وصولي، أضوائي متعجل لمطامعه قبل أوانها.
ومخادع، مخاتل انتهازي، كصاحب [اللحية المزيفة] التي أمتعنا بالحديث عن صاحبها [أبوعبدالرحمن بن عقيل الظاهري].
والعامة تشبه الأراضي الميتة، من سبق إليها أحياها. وإن كان ما لِعْرِقٍ ظالم حق، ولكن:
- من ينزع هذا العِرْق، ويرميه في مزبلة التاريخ؟
في راهننا كل شيء تحت المجهر. وكل شيء أقرب إلينا من حبل الوريد.
أشرت من قبل إلى [زمن العري] ولا وَرَقٍ يُخْصَفُ عليه.
يقول الإنسان الكلمة، أو يسطر العبارة، فتكون حاضرة المشاهد كلها في لحظتها.
يكون قبل التفوه بها، أو التحبير لها ملء السمع، والبصر. ثم يصير بعدها قذاةً، أو أذى يتسابق المحتسبون لإماطته عن الطريق.
وكم تمنيت ألا يقع الناصحون المؤَثِّرون بهذه الفخاخ، ولكنها إدارة الله:- {ولَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}.
ثم إن قلبَ المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء. وفي الدعاء المأثور:- [يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ].
والحي لا تؤمن عليه الفتنة. وحين حضرت سكرات الموت إمام أهل السنة [أحمد بن حنبل] تمثل له الشيطان، وهو يقول:- [فُتَّنِي يا أحيمد] فإذا أفاق من سكرات الموت قال:- [بعد.. بعد]. فقيل له مع من تتحدث قال:- مع الشيطان.
وحين ألَّفَ [عبدالله القصيمي] كتابه القيِّم [الصراع بين الوثنية، والإسلام] قال بعض علماء نجد:- [قَدَّمَ بهذا الكتاب مهر الحور العين].
فزلة القدم المُنْهِيَةِ، أو الموجِعَة متوقعة، ولكننا نود ألا تزل قدم بعد ثبوتها، وبخاصة إذا كان العالم مؤثراً، مخلصاً، صادقاً فيما يقول.
العالم الذكي العاقل يعرف أن العامة الذين رُبُّوا على المفضول بحاجة إلى معالجة دقيقة متأنية، تعيدهم إلى الأفضل. وهذا من أبسط حقوقهم.
والتشريع جاء مرحلياً:- {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى}، ثم أوضح أنها رجس من عمل الشيطان، وجاء التحريم بالتساؤل:- {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}.
لقد استُدْرج البعض من فقهاء القنوات، وحُمِلوا على الحديث عن أمور قتلها مَنْ قَبْلَهم بحثاً، وتحقيقاً، وتأصيلاً. والقول فيها من باب الفضول. وحاجة الأمة لا تقوم عليها. ولا تعد من الأولويات، ولا من المعوقات، وليس من مصلحة الأمة استرجاعها من بطون الكتب، لأنها متخمة بالمشكلات، مترعة بالنوازل.
ومما يصعد اللجاجات، والمِرَاء تدخل الرويبضات الفارغة من كل حس ديني، أو وطني. وسَعْيِها في استحكام حلقات القضايا.
والضحية في النهاية العَالِم المُسْتدرَج الذي بلغت به غفلة المؤمن حدَّ السذاجة.
وقد لا يكون من ذوي الغفلة، ولكنه من ذوي الخَلِيقَة الخفية، التي يظنها تخفى على الناس.
فكم من مُرْتَزِقٍ وصولي، أضوائي يَعْدو بالدين ليحقق مآربه الدنيوية الدنيئة:-
[ومَهْمَا تكن عِنْد امرِئٍ من خَلِيقَةٍ … وإن خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاس تُعْلم].
والمتعقب للقنوات الفضائية، ومواقع التواصل تتشابه البقر عليه، ولكن الصادق المحتسب يؤتيه الله من نوره:- {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ}.
فكم من متحدث مُفَوَّه يَكْثُر سواده يوماً بعد يوم، وقَفْتُ منه موقِفَ الشاك المرتاب، فأفر إلى الله، وأسأله أن يبين لي الحق في أمره.
وما هي إلا أيام، فإذا بأقنعته تسقط الواحد تلو الآخر؛ كورق الخريف. وإذا به يتعرى أمام الملأ، على ما هو عليه.
فالخليقة المخفاة لابد لها من البدو في يوم من الأيام.
على أننا في الغالب - كما الرسول صلى الله عليه وسلم - الذي قد لا يعلم كل الذين مردوا على النفاق:-
{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}. ولكن قلب المؤمن دليله، فارتيابه لا يمكن أن يكون من دون سبب.
هذا الصنف من المرتزقة المتزلفة، يمطرون مشاهدهم بالمصائب، فهم كما دنيا المتنبي التي يقول عنها:-
[أَظْمَتْنِيَ الدُّنْيا فَلمَّا جِئْتُها … مُسْتَسْقِياً مَطَرَت عليَّ مَصَائِبا]
وأخطر شيء تواجهه مشاهد الفكر، والدين، والسياسة نكوص المتصدرين على أعقابهم في ساعة العسرة.
لقد مُلِئت مشاهدنا بفيوض القول المعسول، وشرب منه السرعان شرب الهيم، حتى إذا تضلعوا، انكشف لهم الأمر في ساعة {لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ}.
الأضوائيون، وعشاق الشهرة يستدرجون الدهماء بتأويل المبطلين، حتى إذا بلبلوا أفكارهم، تبرؤوا منهم.
لقد كنت أقرأ للبعض من أولئك، واتخذ كتبه مورداً لا أنقطع منه إلا لأعود إليه. وكان رهاني على أولئك، لأن مبلغهم من العلم يفوق التصور.
ودارت الأيام فإذا هم مطايا موطأة الأكناف للظلمة، والمستبدين، وصناع اللعب القاتلة. يروضون النافرين، ويُدَجِّنُون المتأنفين.
علماءٌ كنا نعدهم من الأخيار، فإذا بهم يتكشفون عن عَبَدةٍ للأهواء، مطايا للطامعين.
بعض مَشْيَخة القنوات يسخر منا، لظننا أننا [الأمة المنصورة]. ولو لم نكن نتوقع ذلك، لما وسعنا البقاء على ما نحن عليه.
وليس هذا من باب الادعاء، ولا الأثرة، ونفي الآخر. فكل أصحاب [الملل والنحل] تلك دعوهم: [وعند الله تجتمعُ الخصومُ].
ومع هذا التشاؤم القاتم، فالخيرية باقية، والأمة المنصورة التي لا يضرها من خذلها قائمة بوعد الله، فلنمسك الجمر، ولنعض على جذوع الشجر.
وعلينا أن نعيد قراءة المشهد، وأن نتخلص من التبعية، والتسليم المطلق، حتى لا نُدْعَى مع الأئمة المضلين:-
{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}.