عبده الأسمري
اتجه من عمق المعاناة نحو أفق المعاني.. فتح الباب على مصراعيه باتزان أدبي وتوازن ثقافي فشكل سيرته بإضاءات البدايات وإمضاءات النهايات الموشحة بطموح التأسيس وروح التطوير وبوح التغيير.. فسجل اسمه علمًا ثقافيًا ومعلمًا بشريًا في مسيرة افتتحها من تفاصيل الغربة وعاشها تحت ظلال الوطن واختتمها في ذاكرة المؤثرين.
إنه رئيس نادي جدة الأدبي السابق الإعلامي والأديب الكبير عبد الفتاح أبو مدين أحد رواد الحركة الثقافية السعودية ورموز الحداثة.
بجسد نحيل وهندام فريد ووجه رقيق تطغى عليه الملامح العربية شكلتها الطفولة وبلورتها الأصول ووجه تكسوه علامات مشيب زاهية وشخصية تملؤها الرزانة وطلة تعكسها «أناقة بيضاء» تؤطرها عينان ضيقتان تشعان بالبراءة وكاريزما هادئة متواضعة وصوت جهوري على طاولة القرار ولهجة حضارية تنبع منها مفردات «المعرفة» وعبارات «الفنون» يطل أبو مدين رياديًا وقياديًا وأديبًا رائدًا.
ولد أبو مدين في طرابلس الغرب عاش اليتم باكرًا فاحتاط بالدافعية وتحوط بالنبوغ درس في الكتاتيب ونأى بنفسه عن شبهات الكتائب آنذاك فنشأ بين تضاعيف القسوة وتواصيف العصامية وعمل حمالاً وقهوجيًا وخبازًا فعاصر المسؤولية مبكرًا ثم انتقل إلى المدينة المنورة حيث درس في دار العلوم الشرعية المؤسسة العلمية الأشهر التي خرجت العلماء والأدباء وظل ينهل من روحانية طيبة الطيبة وينتهل من جهابذة العلم فكان ملازمًا لحلقاتهم في رحاب المسجد النبوي وفي منازلهم مدونًا في ذاكرته «خطوات الدرب» ومسجلاً في أوراقة «سيرة ذاتية لكل الوجوه التي شكلت شخصيته وأضاءت طريقة كان في تلك المرحلة يشكل بناء ثقافيًا يحترم الآراء ويرتهن للتاريخ ويسمو بالثقافة فظل يركض يافعًا يراقب زوار المدينة ونشاط البشر ويتعايش مع ثقافاتهم ويرصد أدب الزمان وطهر المكان بتراكمية معرفية عجيبة ظلت حاضرة في وجدانه فمد جسورًا مع معلميه ظلت «مآثر للجميل ومشاهد للفضل، كان يستحضرها في كل مراحل حياته واضعًا منهجًا إنسانيًا فاخرًا من الاعتراف بالمعروف لمن علموه الحروف والوفاء للأوفياء الذين سطروا له المعرفة بسخاء.
عمل أبو مدين في الجمارك وشغل منصب رئيس النادي الأدبي بجدة عام 1980 واستمر نحو ربع قرن اكتمل فيها الإنجاز بدرًا من خلال تميز النادي بإصدار عدد من الدوريات الشهيرة على مستوى العالم العربي وهي «علامات» في الفكر النقدي وجذور في الدراسات التراثية وعبقر في الشعر والراوي في القصة ونوافذ في الجانب العلمي التي ظلت مراجع للنقد والأدب والترجمة.
أسس أبو مدين مع محمد باعشن عام 1377 صحيفة الأضواء وأيضًا مجلة الرائد عام 1379 ومضى في المؤسسات الصحفية موجهًا ومخططًا وقائدًا حيث أدار تحرير العدد الأسبوعي في صحيفة عكاظ ونقله إلى مصاف «الاحترافية» وشغل منصب مدير عام لمؤسسة البلاد للصحافة والنشر وعضو منتدب فكانت له بصمته في إدارة المال بمهنية المبتكر.
قضى أبو مدين جل وقته في معاقرة الكتاب ومناظرة الفكر فتجلت معرفته كتابة واستجلت في عدة مؤلفات طغت عليها «اللغة المركبة» و»التركيبة الإبداعية» للفظ والمضمون وظهرت فيها روحه الخاصة التي أفرد أشرعتها في إنتاجه فألف كتب أمواج وأثباج (نقد أدبي). وفي معترك الحياة. (دراسات أدبية). وتلك الأيام. (تجربة صحافية) والصخر والأظافر. (دراسات نقدية). وحمزة شحاتة ظلمه عصره. (قراءات تأملية). وحكاية الفتى مفتاح. (سيرة ذاتية). وهؤلاء عرفت. وأيامي في النادي ولن أسافر.
ظل أبو مدين مكتنزًا بهم جيل ممتلئ بضجيج مرحلة حولها إلى جاذبية والتقاء بين أمنيات مثقفين وتقاطعات أطياف معززًا جهده بمقولته الشهيرة أن الثقافة مغارم وليست مغانم.. متخذًا من صناعة الكلمة غنيمة تصالح مع الآخرين ومن برمجة الخطاب غيمة فلاح تمطر نضجًا تمقت الخلاف وتشيع الائتلاف.
مضى أبو مدين كعادته «صامتا» «منصتًا» حيال التراشقات وأمام التصنيف ولكن أعماله شكلت «دويًا» و»عصفًا فكريًا» و»عاصفة تغيير» غيرت المشهد التراكمي للحركة الثقافية وإعادته إلى حيث الترتيب والتخصص واضعًا «العمل في صمت» و»خطط الجندي المجهول» خلطة سرية ورموزًا خاصة فتح بها الأبواب الموصدة على حراك ثقافي جامد فحوله إلى «منهجية مهنية مستديمة «ومراجع ثقافية دائمة».