د. محمد بن يحيى الفال
لم يكن الأمر مستغرباً عندما نقلت لنا وسائل الإعلام صور المظاهرات العارمة التي شهدتها معظم المدن الإيرانية ضد نظام الملالي الإرهابي، فالواقع والمؤشرات تؤكد بأن السيل قد بلغ الزُبي، ولم تعد الشعوب الإيرانية، بمكوناتها: الفارسية الآذرية، الكردية، العربية، التركمانية وغيرها، قادرة على تحمل مغامرات نظام الملالي الكهنوتي الذي سيطر على البلاد والعباد لحوالي أربعة عقود منذ الثورة المشؤومة للخميني والمسماة كذباً وزوراً بالإسلامية. أربعة عقود عجاف سُخرت فيها ثروات الشعوب الإيرانية لتدبير الحروب والمكائد والقلاقل والفتن التي جعلت إيران بشعوبها كافة مختطفة لنظام استبدادي يستتر بالدين تارة وبديموقراطية مزعومة تارة أخرى، ليُدخل المنطقة بأكملها في حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي.
الثورة الإسلامية المزعومة ومنذ أن استولت على مقاليد الحكم في إيران استنفدت ثروة الشعوب الإيرانية في مغامرات مُهلكة وعبثية لم تستفد منها إلا الطُغمة الحاكمة والمُسيطرة على زمام الأمور، وتم تبديد مُقدرات الشعوب الإيرانية في حروب لا طائل منها، وفي تطوير برنامج نووي عسكري ذي نزعة ديكتاتورية، وبرنامج عسكري آخر لتطوير الصواريخ الباليستية لتهديد دول المنطقة بها، ودعم مالي وعسكري لميلشيات وتنظيمات لإشاعة الفوضى وتهديد السلم والأمن الاجتماعي في العديد من الدول العربية. بالكاد مرت سنة ونصف لقيام الثورة الإسلامية المزعومة في إيران، حتى نشبت الحرب العراقية الإيرانية، والتي استمرت حوالي ثماني سنوات، وبغض النظر عن الطرف الذي أطلق شرارتها وهو أمر تجاوزه الزمن، فإن المؤكد والموثق هو أن العراق وقتها حاول وبكل الوسائل الدبلوماسية وضع حد لها، لكونها تحولت لحرب استنزاف، وأصر الخميني على الاستمرار في خوضها إلى أن وصل لقناعة بوقفها، والذي وصفه بأنه قرار كمن يتجرع السم الزُعاف، وبأن العراق سيدفع ثمن الحرب آجلاً أو عاجلاً، وذلك بعد أن تكبدت إيران خسائر بمئات الآلاف من القتلى والجرحى ومئات المليارات من الدولارات. توقفت الحرب وتغير النظام في العراق بآخر، كان لبعض من ترأسه في البداية موالاة غير مسبوقة لنظام طهران، مما ساعد في نشر الفوضى والطائفية المريعة التي لم يعرفها العراق على امتداد تاريخه، بالقتل على الهوية في بلاد الرافدين، وذلك تنفيذاً لوصية الخميني في تدمير العراق. ومع قول هذا، فإن العراق الآن وبوجود حكومة وطنية واعية ومدعومة عربياً وخصوصاً من قيادة المملكة بدأ في التعافي من تخريب وتدمير نظام الملالي الذي قوض أمنه واقتصاده وسلمه الأهلي.
وما إن تنفست الشعوب الإيرانية الصعداء بعد توقف الحرب مع العراق، وعوضاً عن أن تقوم قيادته في تعويضها عن معاناتها من سنوات الحرب الطويلة مع العراق، حتى أدخلته قيادته في خضم ملف نووي عسكري بنزعة ديكتاتورية تهدف إلى الهيمنة على المنطقة وتهديد أمنها، ملف ذو تعقيدات عدة منها الظاهر والكثير منها مُستتر، وكانت النتيجة المزيد من المعاناة للشعوب الإيرانية، باستثناء الطُغمة الحاكمة، التي لم تتأثر مصالحها سواء إبان الحرب مع العراق أو خلال المفاوضات الماراثونية فيما يخص الملف النووي. وبعد أن طويت صفحات الملف النووي المثير للجدل توقعت الشعوب الإيرانية بانفراج لمعاناتها، وليتأكد لهم بأن أحلامهم بتحسن الظروف لم تكن سوى أضغاث أحلام، وبأن الملالي وبالتجربة تلو الأخرى يؤكدون بأفعالهم بأنه ليس من أولوياتهم تحسين ظروف الشعوب الإيرانية المقهورة، لينخرط نظام الملالي في تعزيز برنامجه للصواريخ الباليستية لتهديد دول المنطقة من خلال أذنابهم، وكما يقوم الحوثيون بإطلاق الصواريخ الباليستية التي زودهم بها نظام الملالي والتي هدفت لتهديد أمن المملكة، وبلغت بهم الخسة والحقارة محاولتهم توجيه إحداها لمكة المكرمة، ولكن بفضل الله وكما هو الحال على الدوام تتمكن قوات الدفاع الجوي السعودي بمهنية وفعالية من تدمير واقتناص كل صواريخ الشر، وذلك قبل وصولها لأهدافها المدنية. وللمزيد من سياسات القهر للشعوب الإيرانية والسعي للهيمنة والسيطرة على المنطقة والتي أضحت منهجاً لنظام ملالي إيران منذ أن ابتُلي بهم الإيرانيون والمنطقة بأسرها، فقد بددوا مليارات الدولارات من ثروات الشعوب الإيرانية لدعم أنظمة قمعية وميلشيات وعصابات إرهابية، وكما هو الحال مع نظام سفاح دمشق في سوريا، وميليشيا حزب الله في لبنان وعصابة الحوثي في اليمن.
مظاهرات الشعوب الإيرانية ضد إسقاط نظام الملالي الكهنوتي لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، ففي عام 2009 شهدت إيران مظاهرات كبيرة عمت المدن الإيرانية بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية التي جاءت بمحمود أحمدي نجاد ممثل نظام الملالي، ولتثبت للجميع بأن ديمقراطية إيران ليست إلا لعبة بأيدي المرشد الأعلى للثورة وحاشيته، وتم قمع المظاهرات بوحشية متناهية، والتي بقيت في الذاكرة أيقونتها الشابة الإيرانية ندا آغا سلطان التي تناقلت وسائل الإعلام صورتها وهي تلفظ أنفساها، سابحة ببركة من دمائها بعد إطلاق النار على رأسها من قبل قوات الباسيج المؤدلجة التابعة للحرس الثوري وذراع أمن نظام الملالي في الداخل الإيراني. انطلقت شرارة المظاهرات الأخيرة في إيران من ثاني أكبر المدن الإيرانية، مدينة مشهد بشمالي شرق إيران، وهي المدينة التي شهدت قبل حوالي سنتين حرق القنصلية السعودية فيها من قبل الغوغاء الموجهين من قبل نظام الملالي، ولتعم المظاهرات كافة المدن الإيرانية الكبرى بما فيها العاصمة طهران وكل من مدن كرمنشاه، همدان وأصفهان، ولم تستثن حتى مدينة قم الحاضنة السياسية لمرجعية نظام الملالي الكهنوتي. ومما يجدر ذكره هنا بأن سمو الأمير محمد بن سلمان وبقراءة سياسية استباقية أثبتت الأحداث الأخيرة في إيران مضمونها، كان قد صرح وقبل فترة قصيرة بأن المملكة لن تلدغ من إيران مرتين، مضيفاً «كيف أتفاهم مع واحد أو نظام لديه قناعة مُرسخة بأنه نظام قائم على ايدلوجية متطرفة منصوص عليها في دستوره»، وهي الحقيقة التي وعتها الشعوب الإيرانية وبأنه من المستحيل لنظام الملالي أن يغير جلده، وبأن الحل الوحيد يتمثل في إزالته لتعود الشعوب الإيرانية بإيران كدولة فاعلة ومتفاعلة مع شعوب المنطقة ومحيطها الإقليمي لما فيه خير ومصلحة الجميع، دولة تنبذ العنف والسيطرة الكهنوتية على مُقدراتها وخيراتها التي حُرمت منها لعقود أربعة مليئة بالحروب ونشر الطائفية والكراهية وأحلام التوسع والهيمنة.
أخيراً، فمن المؤسف حقاً أن نجد بعض القنوات العربية المرئية وعلى رأسها قناة الجزيرة القطرية ببثها باللغتين العربية والإنجليزية، والتي تدعي بأنها قناة الشعوب، تحاول تبرير ما يحدث في إيران لمصلحة النظام، حيث تسعى ومن خلال نشراتها الإخبارية وبرامجها الحوارية التأكيد بأن مظاهرات الشعوب الإيرانية ليست موجهة ضد النظام بل ضد الحكومة، في تبرير مضحك لا ينطلي على أحد، والكل شاهد من خلال الصور التي تناقلتها وسائل الإعلام كيف أن المتظاهرين رجالاً ونساءً ينزعون صور المرشد الأعلى ويكتبون على الجدران الشعارات التي تنادي بإسقاطه وإسقاط نظام الملالي. وعلى كل حال فمنذ متى كانت الحكومة في إيران مستقلة بسياساتها، وليست إلا بيدقاً بيد المرشد الأعلى وحاشيته من الملالي يوجهونها حيث وكيف ما يشاؤون!.