عبدالعزيز السماري
في بداية العام الثامن عشر في الألفية الثالثة حدثت تطورات مهمة في المنطقة؛ وهو ما يعني أنه لم يعد في علوم البشر أمر خافٍ؛ فقد وصلنا إلى مراحل نهاية الاكتشافات في علوم الاجتماع والسياسة والاقتصاد، بعدما أصبح الأمر كتابًا مفتوحًا للجميع..
وقد نستطيع القول إن التصنيفات القديمة مثل الدهماء والإقطاع والتسلط لم يعد لها تمثيل شرعي في عقول البشر؛ فقد تم إدانتها في مختلف الدراسات والسير، وجاء محلها مصطلحات أكثر موضوعية، مثل المجتمع والشفافية وسيادة القانون وفصل السلطات.
في هذا العصر لا يمكن أن يتحدث أيٌّ كان بلغة العصور الوسطى، وإن تحدَّث أحدهم من خلال هذه المفردات والمصطلحات سيكون في موقف صعب أمام موجات ردات الفعل على مختلف الأصعدة؛ ولهذا عليه أن يجيد لغة العصر في السياسة والاقتصاد والقانون، وأن يواكب مفاهيم حقوق الإنسان إن أراد أن يحظى بثقة الإنسان في المجتمع.
في هذا العصر أصبح واضحًا أن استغلال النفوذ لتكوين الثروات الضخمة تحوَّل إلى جريمة كبرى وفساد عظيم في الأرض؛ وهو ما أعاد لثقافة العمل والابتكار والإنجاز مكانتها بعد أن كانت في الدرك الأسفل في المجتمعات المتخلفة؛ ولهذا السبب على وجه التحديد لا تتوقف ثروات التكنولوجيا والتقنيات الجديدة، التي كان آخرها العملات الرقمية مثل بيتكوين، وهي نظام دفع يعمل بدون بنك مركزي.
في هذا العصر تحولت سياسة وضع اليد إلى سرقة لأموال وأراضي الأوطان؛ وهو ما يعني حرمة استغلال السلطة والنفوذ في عقول البشر، وقد كانت لوقت قريب تمثل أحد وجوه الوجاهة الاجتماعية، من خلال التحول إلى سلطة مالية متحركة ومؤثرة وغير خاضعة للقوانين..
في هذا العصر لم يعد التعليم العالي حكرًا على بعض النخب، ولكن انتقل إلى أن يكون مجالاً مفتوحًا وفرصًا متكافئة عبر الأثير للجميع، كما أصبح من متطلبات الأمن الوطني؛ فالإنسان المتعلم والمتدرب على ثقافة العمل أكثر سلامًا وأمنًا وتطورًا من الإنسان المتخلف.
في هذا العصر أصبح السؤال ثقافة عامة، وكلما تقدم الإنسان في سلم الحضارة تزداد أسئلته؛ ولهذا تحولت الشفافية والوضوح إلى ركن من أركان الاستقرار؛ فتقديم التفسيرات لمختلف القرارات أمر حتمي في السياسة العصرية؛ ولهذا يخرج يوميًّا المتحدث عن رأس السلطة في الدول المتقدمة للإجابة عن تلك الأسئلة العالقة في أذهان المواطنين.
في هذا العصر تحوَّل مفهوم العدالة إلى تساوٍ للفرص أمام الجميع، على أن يسري القانون على الجميع بلا استثناء، وأن تكون التنمية وخلق فرص العمل للمواطنين مهمة رئيسية للحكومات المسؤولة عن ذلك، وإذا أخفقت تتم مناقشتها من خلال القنوات الشرعية.
في هذا العصر لم يعد هناك اختلاف حول الآثار المترتبة عن فساد السلطة، ومنها اتساع الهوة بين الغنى والفقر، واستباحة الثروات العامة، واختلال موازين العدالة، وسيادة ثقافة الاستبداد والانتقام.. والسلطة الحية هي تلك التي تبدأ بمراحل الشفاء من داء الفساد، والخروج من النفق المظلم إلى حيث الوضوح وتحقيق العدالة..
في هذا العصر دخلت حرية التعبير عصرها الذهبي؛ فقد نجحت وسائل التواصل الاجتماعي في فرض وجودها؛ وهو ما أدى إلى تحرير الكلمة من سلطتها الهرمية، وتمردها على السلطة الفاسدة؛ ولهذا لا بد من مواكبتها، ولكن بتقنين واضح لحرية التعبير، التي من شأنها الحد من دعوات التطرف والعنف..
في هذا العصر لم يعد هناك أيضًا أيديولوجيات خافية كما كان في العصور الوسطى؛ فقد انكشفت الأوراق، وأصبح استغلال الأفكار لخدمة الأغراض الشخصية أمرًا مكشوفًا للجميع، وجاء محلها أفكار أكثر إنسانية وأكثر احترامًا لحقوق الإنسان وحرياته. ولنا في سير الأفكار ونزعاتها الشوفونية في أوروبا خير مثال، لكن ذلك لا يعني أن نتخلى كعرب عن مواقفنا النزيهة والشرعية تجاه قضايانا المصيرية.