عبد الرحمن بن محمد السدحان
لا تكاد تغيبُ شمسُ ذكريات الدراسة في أمريكا عن أفق الخاطر، بل تزْدادُ ثبَاتاً وتوهُّجاً رغم مرور السنين والأيام، وهي ذكريات تنتظم فيها صَرامةُ الجد مع عَفْوية الهزل، وآهةُ الحُزن مع ابتسَامة الفرح، ونشوةُ النصر مع خَجل الهزيمة، وعندما يتحول كل ما حدث إلى (فعل ماض)، تبقى لتلك الذكريات معالمُ وشواهدُ في النفس لا تْبلى ولا تَبِين!
كانت مدينةُ (لوس انجلوس) الأمريكية المحطةَ الأهمَّ في مشواري الأمريكي، ففيها استقرَّ شراعي قبل أكثر من أربعين عاماً، لأَبدأَ منها رحلةَ إعادةِ اكتشافِ الذات والعبُورِ نحو ميلاد جديد، والتعايشِ مع مَنْ حولي لغةً وأجناساً وأنماطَ سلوكٍ.
وأسردُ عبر السطور التالية بعضاً من شئون الغربة وشجونها في (مدينة الملائكة) أو لوس أنجلوس، التي يرسمُ اسمُها أَطلالاً إسَبانية، بحكم ما كان من أمرها قبل دخُولها في منظومة الكيان الأمريكي الحالي قبل قرون.
تحّول شعورُ الاغتراب والوحدة في لوس أنجلوس، إلى شحنةٍ من الإيمان بالله، ثم العزْمِ على مواجهة كل ظرف صعب! لم يكن يْشغلُ بالي يومئذٍ سوى تحقيقِ الهدف الذي قَصدتُ أمريكا من أجله، وقد بدأت المواجهةُ الحقيقيةُ مع دراسة اللغة الإنجليزية قبل الانتظام في الحراك الأكاديمي الجامعي، وكانت تلازمني (عقدةُ التفوق) ببُعديْن متضادّيْن. فقد كنت أدرك أن التفوقَ في بلادي شيءٌ وفي أمريكا شيء آخر، فأنا هنا في بلادي بين أهلي وعشيرتي أتحدث لغتهم واتنفس عبير تاريخهم واستشعر آمالهم وطموحاتهم، ومن ثم فقد عجبْتُ أولَ مرة كيف لي أن أحُافظَ على مستوىً من التفوق في أرضٍ لا أتقنُ لغتَها، ولا أعرف عنها إلاّ نزْرا يَسيراً : تاريخاً وجغرافيا وثقافة، ناهيك بنظامها التعليمي والسياسي والتربوي.
ولن أنسى ما حييتُ موقفاً سبق الرحيل إلى أمريكا.. فقد فاتَحتُ سيدي الوالد -رحمه الله- بعزوفي عن الابتعاث إلى أمريكا، رهبةً منه ودرءاً لعواقب لا تسر، معلّلاً الموقف بما ينتظرني هناك من تحديات قد تُفسدُ عليّ نشوةَ التفوق الدراسي الذي عشته في المملكة، وجاء ردُّ أبي كاشفاً للوهم وحاسماً، حاثَّاً لي على المضيّ في مسار الابتعاث والتوكل على الله.. وكمَنْ أفاق من سبات عميق، ألفيَتُني بعد أيام امتطي متْنَ السَّحاب متَّجهاً إلى قُلعة (العالم الجديد)، نيويورك، ومنها إلى لوس أنجلوس! ولم يكن هذا الحدث ليتم لو لم يكن متوجاً بموافقة سيدتي الوالدة.. ومباركتها، -رحمها الله-.
أما البعدُ الآخر للمواجهة فكان إحساسي الباطن بتفوّق شريكي الأمريكي، بلغته أولاً ثم بهويته الاجتماعية والنفسية، وارتباطه بأرض يعرفها، وتراث يألفه، أمّا أنا فغريبٌ.. غريبٌ حتى العَظْم.. لغةً وهويةً، وتراثاً.
انطوت السنين سِرَاعاً، يلاحقُ بعضُها بعضاً، وتحوّل هاجسُ غُرْبة الأمس إلى هِبَةٍ من الصمود يسيّره الإيمانُ بالله، ثم الثقةُ بالنفسِ المسيرةِ بحبّ الوطن والرغبةِ الحميمةِ في خدمته في وقت لاحق! كنت أناجي النفس كلما خلوت إليها فأقول: إنّ وجُودِي في أمريكا لم يَأتِ عبثاً، ولا يجب أن يكونَ عَبَثاً، لابد من توظيفه استنفاراً للقدرات وتوثُّباً للتحصيل تمهيداً للمشاركة في جهود تنمية الوطن، أيّاً كانت المشاركة، نوْعاً أو قيمة! ولقد تصديت بنجاح لوحشة الغربة.. وهاجس اللغة.. ومرارة العيش وحيداً.. وكان الله معي.. فلم يخذلني، حتى أكملت المشوار.
وجاء اليوم الموعود.. وكمن أدرك الفجر بعد ليل طويل اختلط فيه الحلمُ بالعنَاء، والوعدُ بالحقيقة، ومتاعبُ البذْل بفَرَح الحصَاد، وألفيَتُني استقلُّ الطائرةَ عائداً إلى (أرض ميعادي).. أرض الوطن الحبيب.
وزارني التأمل من جديد، وأنا على متن الأثير، بدْءاً بذكرى رحلتي الأولى إلى نيويورك في طريقي إلى لوس أنجلوس، ثم بقائي أسير مقعدي الصغير أكثر من ثماني ساعات، بجوار آدمي مشوه الخِلقة (اسْتوطَنَ) المقعدَ المجاوَر لي، ولم يبارحْه سيجارهُ الضخم ولا نظارتُه السوداء حتى لحظة الوصول! وكانت شفتاه تفتَرّان بين آن وآخر عن ابتسامة بلهاء تطلُّ من خلفها أسنان صفراء كأنهَّا رؤوسُ حرابٍ ملوثةٍ بالوحْلِ، وتظلُّلها عينان من وراء حجاب النظارة السوداء كأنهما حدقتا غول في ليل بهيم!.
وقد خانني الجُهُد في تفسير ابتسامته تلك: هل كان مشْفِقاً عليَّ من صَمتي بجواره، لا يشاركنا سوى دُخَانِ سيجاره الخبيث، أم الإشفاق على نفسه أنه لم يسْتطعْ اقتحامَ مجَاهل شخصيةِ جَاره في الرحلة! أما أنا فلم يكن يعنيني من أمره شيء، سوى الأمل في أن ينطوي بساط الرحلة.. بسرعة، وأطأ الأرض سالماً! لم يكن لي سوى الصبر والاحتساب والتمتمة بشيء من الدعاء.. حتى أذن الله لنا بالوصول.