ياسر صالح البهيجان
جهود كبرى تبذلها الحكومات لمواجهة حالة الأميّة في التعليم؛ لذا يبرز مصطلح «محو الأمية التعليميّة» كأداة لتعليم الأفراد آلية القراءة والكتابة، على غرار ذلك نشير إلى مصطلح «محو الأميّة الوطنيّة» كمنطلق معرفي لتعليم أفراد المجتمعات الحد الأدنى من المعرفة عن وطنهم، تاريخه، حضارته، تنوعه الثقافي، شخصياته الأبرز؛ لأن إدراك هويّة الوطن سبيل لتعزيز الانتماء إليه، كما أن الجهل به قد يُحدث نوعًا من الفجوة فيما بين الفرد ووطنه، وينتج شكلاً من أشكال الاغتراب الوجداني بين الإنسان والفضاء المكاني.
الفرد الحديث لم يعد متصلاً بمجتمعه المحيط به كما كان في السابق، إذ وفّر الفضاء الإلكتروني مساحة أكبر لتخطي حاجز الحدود الجغرافية الوطنية، كجزء من طبيعة وسائل الاتصالات الحديثة؛ إلا أن السلبية الكبرى التي أنتجها ذلك الانفتاح الهائل على الآخر تكمن في تراجع المخزون المعرفي للإنسان عن وطنه، وهذه المعضلة تعاني منها أكثر مجتمعات العالم تقدمًا وتطورًا وليست حكرًا على المجتمعات الأقل مواكبة لحالة التحضر الراهنة، ما فرض ضرورة الالتفات لقضية الأميّة الوطنية، والعمل على وضع حلول لمعالجتها سعيًا لتقوية ارتباط الإنسان بأرضه، وحفاظًا على وحدة وطنه في ظل التهديدات المتنامية التي تطال الأوطان مع تفاقم ظاهرة الإرهاب والجماعات المتطرفة ذات الأطماع المسيّسة والمستغلّة سوى بفعل دول وكيانات لها أهداف توسعية وعدوانيّة، أو نتيجة اعتلالات نفسية وعقلية.
مشروع «محو الأميّة الوطنيّة» ليس منهجًا يمكن تدريسه في المؤسسات التعليمية، أو حملة إعلانية تُذاع في وسائل الإعلام، وإنما هو نهضة فكرية ومعرفيّة تتصدّر الخطط الاستراتيجيّة لدى الأجهزة الحكومية والأهلية على حد سواء، بحيث يشتغل كل في مجاله لخدمة المستفيدين بطريقة تعزز مبدأ الانتماء الوطني. المعلم يغرس لدى المتعلم فكرة أن جهده التعليمي يأتي خدمة للوطن، والطبيب بيده الحانية يوحي للمريض بأنه يؤدي مهامه الإنسانيّة للنهضة بصحة من يعيشون في وطنه، والمهندس يشيّد المباني الجماليّة وهو يأمل في أن يظهر موطنه بأجمل حلّة، وكذلك الحال في سائر المجالات المهنيّة.
والفنون هي الأخرى تضطلع بأدوار رئيسة في مشروع «محو الأمية الوطنية». الشاعر يحيك قصيدته فخرًا بوطنه ويرنم على صداها من يسمعها، والرسّام يمزج ألوانه لينتج لوحة تبرز جمال تضاريس الوطن حتى يتسمر أمام جمالها كل من يراها، والموسيقي يعزف مقطوعته الموسيقية الوطنيّة لتؤرخ لماضي مجيد وتبعث الأمل على مستقبل أكثر إشراقًا، وعلى هذا المنوال يسير الفنانون الآخرون في سائر الفنون الجميلة.
«محو الأميّة الوطنية» استراتيجيّة في الأداء والتنفيذ وليست معرفة يمكن تلقينها، هي ليست سلوك إضافي بقدر ما هي إعادة صياغة لآلية العمل الحالية، لتتضمن أهدافًا أوسع ورؤية أكثر شمولية؛ لكي تساهم في مد جسور الالتحام بين الإنسان ووطنه، وكي تقيه من التيه والاغتراب.