محمد بن عبدالله آل شملان
سيظلّ استجلاء القيم الإنسانية والحضارية للتاريخ الوطني وتاريخ الجزيرة العربية وإظهارها هي الباب الأوسع للافتخار، وسيبقى مصدر حياة عقل المواطن الذي ستتجدّد خلاياه بمقدار ما يعرض عليه منها، وعلى قدر توافرها وثرائها وزخمها على قدر زيادة قدرته للتعامل معها، اعتزازاً وارتباطاً واستدعاء، وكما أنَّ الجسم يحتاج إلى لياقة بدنية تدوم بدوام ممارسته للتدريبات الرياضية، كذلك فإن القيم الإنسانية والحضارية تساعد الفرد بشكل خاص والمجتمع بشكل عام دائماً على الاحتفاظ بلياقته الشعورية في تمثيل المعنى الحقيقي للمواطنة، وإلا أصيب بالتراخي الذي يحول بين الفرد والقدرة على ربط الحاضر بالماضي التي تساعده على الفخر والاعتزاز، ويُتطلّع منها إلى مستقبل مشرق زاهر.
وقد نادى بتلك القيم مؤسّس كيان هذا الوطن الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - منذ عقود طويلة بقوله: «كل أمة تريد أن تنهض، لا بد لكل فرد فيها من أن يقوم بواجبات ثلاثة: أولها واجباته نحو الله والدين، وثانيها واجباته في حفظ أمجاد أجداده وبلاده، وثالثها واجباته نحو شرفه الشخصي».
ولأنَّ قيادة هذا الوطن الراشد تدرك أهمية القيم الإنسانية والحضارية للتاريخ الوطني وتاريخ الجزيرة العربية في إضفاء القيمة على حياة الفرد بمعناها الحقيقي التي تؤكد على الأمانة المشتركة بين الراعي والمسؤول والرعية في الحفاظ على الوطن، وتعاون وتعاضد الجميع في القيام بالدفاع عن قيمة الإنسانية والحضارية. من هُنا تأتي أهمية مبادرة تكريم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله - للفائزين بجائزة الملك عبدالعزيز للكتاب في دورتها الثالثة لعام 1437 - 2016م، وبجائزة ومنحة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود لدراسات وبحوث تاريخ الجزيرة العربية في دورتها السابعة لعامي 1438 - 2017م، خلال استقباله - رعاه الله - في مكتبه بقصر اليمامة الأسبوع الفائت، المستشار في الديوان الملكي الأمين العام لدارة الملك عبدالعزيز المكلّف الدكتور فهد بن عبدالله السماري؛ والفائزين والفائزات بالجائزتين في دورتيهما الحاليتين، تلك المبادرة الوطنية الشاملة باعتبارها أكبر مشروع وطني عكس مدى الاهتمام بالعلم والعلماء وتشجيع الحركة العلمية والبحثية، باعتبارها قيمة مهمة في تكوين شخصية الفرد وتوسيع مداركه، فضلاً عن غرس التحفيز بالاهتمام بتاريخ وطنه المملكة العربية السعودية وجغرافيتها وآثارها والتاريخ العربي والإسلامي، كما أنها السبيل إلى الحفاظ على هوية الوطن وكنزه التاريخي.
واليوم هو يوم الحصاد حيث يُكرّم من استجاب إلى تلك المبادرة وقبل التحدي وحقق الهدف، اليوم هو يوم التتويج حيث احتفت دارة الملك عبدالعزيز، تلك المؤسسة التي باتت تنثر ورودها وأزهارها بيدٍ ثقافية ومعرفية على أجيال الوطن وتخرج لهم كل يوم من خزائنها كل نفيس وغال، اليوم هو يوم قيم الوطن، ويوم المعرفة والعلم في وطننا الكبير (المملكة العربية السعودية)، وذلك للاحتفاء بالفائزين بالجائزة، ولتتويجهم بلقب «أبطال مستظهري القيم»، الذين بذلوا جهوداً كبيرة وواضحة في مؤلفاتهم، وصولاً إلى يوم التتويج.
إنَّ احتفاء خادم الحرمين الشريفين اليوم بناشري القيم الإنسانية والحضارية للتاريخ الوطني وتاريخ الجزيرة العربية من المؤلفين السعوديين وغيرهم رسالة مفهومة أن الطريق إلى المستقبل يكون بالولاء الذي من خلاله سيتأكّد الانتماء وسيتعمق الارتباط بكل ما يرمز إليه الوطن من قيم ومبادئ ومثل وخصوصيات وأمجاد تاريخية، والتأكيد على الإخلاص في خدمته غاية الإخلاص والحرص البالغ على سلامته من كل الآفات والأضرار والمخاطر التي يمكن أن تمس به مادياً ومعنوياً، كما أن قيمة الجائزة المعنوية والتتويج للدلالة على تقدير أصحاب الإنجاز وقوة دافعة لغيرهم على السير في الدرب ذاته.
وفي اعتقادي أن استجلاء القيم الإنسانية والحضارية للتاريخ الوطني وتاريخ الجزيرة العربية وإظهارها سيكون له ما بعده من تشجيع التأليف بين الكتّاب السعوديين وغيرهم، فضلاً عن الاهتمام بصناعة الكتاب التاريخي والجغرافي ونشرهما، وإعادة الروح لاتجاهٍ كاد أن يندثر وسط تحديات تعمل على طمس هويتنا وقيم مستهلكة ورياح عاتية تعمل على إبعادنا من قيم وطننا التاريخية والحضارية وتاريخ الجزيرة العربية، كما أنها ستعيد إلى مكتباتنا الاتجاه التأليفي الذي سنطالع من خلاله على جوانب وطننا فتتضاعف المعرفة فيه، وتؤسِّس لجيل المستقبل القادم الشخصية المرتبطة عقلها ووجدانها بوطنها إلى أبعد الحدود، الساعية لأن يكون وطنها في الذروة من التقدم والمجد والرقي والسمو والازدهار، وألا يكون ثمة شيء يسبق الوطن في القيمة والاعتبار، مهما تكن الدواعي والأسباب والمبررات والضرورات..
إن الاحتفال بالمؤلفين الأسبوع الفائت، برعاية وحضور خادم الحرمين الشريفين في احتفالية تاريخية تعود بنا إلى أيام خلت كان اقتناء الكتاب من مصادر التباهي والفخر، وكان مداد العلماء وكتبهم تقايض بوزنها ذهب، فتقدّمت أمتنا وسادت بثقافتها العالم.
وأعود لأذكر بما أكَّد عليه -حفظه الله ورعاه- في يوم التكريم: «أظهروا قيم تاريخنا». وتأكيد شغفه من الصغر بالعلم ومنحه عدداً من الخدمات لخدمة تاريخ الجزيرة العربية وعلومها وآدابها عبر المنارة التاريخية «دارة الملك عبدالعزيز» التي رفدها -وفقه الله- بمصادر مختلفة ومراجع عظيمة ووثائق تاريخية ومخطوطات مد بها الباحثين والعلماء والمختصين وطلبة العلم والمهتمين فكانت لهم مصادر موثوقة وكتب نافعة وزاد عظيم في رحلاتهم العلمية.
طوبى لمن أعلن قيم وطنه، وطوبى لمن قَبِل الخوض فيها، وطوبى لمن صمد أمام صعوبات البحث فيها، وطوبى لمن ابتهج واحتفل واستقبل وتوَّج الفائزين.